الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا وجعلنا به خير أمة أخرجت للناس والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد خلق الله الخلق لعبادته قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) وكان الناس من عهد آدم عليه السلام أمة واحدة يعبدون الله على دين أبيهم آدم إلى أن مضى عشرة قرون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما عند تفسير قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وكما قال تعالى في الآية الأخرى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) وفي الحديث القدسي: (يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن فطرتهم ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، فشياطين الجن والإنس غيروا كثيراً من الناس عن فطرتهم ولما انقسم الناس إلى مؤمنين وكفار فقد مايز الله سبحانه وتعالى بينهم في الأحكام والجزاء فقال سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وقال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ* أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وشرع الله الولاء والبراء في الدين ليتميز المؤمنون من الكفار فقال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، ولما نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين وأمرهم بموالاة المؤمنين أخبر أن ذلك هو ملة إبراهيم الذي أمر نبينا بإتباع ملته فقال سبحانه: (أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) وقال سبحانه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، وأخبر سبحانه أن إبراهيم عليه السلام لما تبين له أن أباه عدو لله تبرأ منه وقال سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فأخبر سبحانه أن موادة الكفار تنافي الإيمان وأخبر سبحانه المؤمنين أن الكفار وإن أظهروا للمسلمين شيئاً من التسامح والتقارب فإن قلوبهم تغلي من الحقد والضغينة عليهم فهم يتربصون بهم الدوائر فقال سبحانه: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) وأخبر سبحانه أنهم إذا استولوا على المسلمين وتمكنوا منهم ساءوهم سوء العذاب فقال سبحانه: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) والواقع شاهد بذلك وأخبر سبحانه أنهم لن يرضوا عنا حتى نتخلى عن ديننا ونتبع دينهم فقال سبحانه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) فمهما حاولنا التقارب معهم فإنهم يبتعدون عنا ومهما حاولنا التودد إليهم فإن عداوتهم تزداد لنا فالذين يحاولون الآن التقارب مع اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار يحاولون مستحيلاً كيف نتقارب معهم والله تعالى يقول عن اليهود: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) إلى قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً* وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) وقال عن النصارى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) فكيف يمكن التقارب مع هؤلاء وجميعهم يكفرون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونه وهو الذي أرسل إلى الناس كافة وأمر جميع الناس ومنهم اليهود والنصارى بأتباعه قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وقال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وذلك بعد قوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) إن اليهود والنصارى لا يقولون هذا الذي نقوله وإنما يقولون: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) وكيف نتقارب مع قوم لا يؤمنون بنبينا ولا بكتابنا – أما من كان منهم مؤمناً بالأنبياء والكتب قبل تحريفها ومات على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مؤمن حقاً قال تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك من الصالحين) والذين استمروا على إيمانهم بالكتب الصحيحة غير المحرفة والرسل حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا به فإنهم ينالون الأجرين من الله تعالى قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وقال تعالى عنهم: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) فهؤلاء إخواننا في الدين نقول في حقهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) أما الذين يكفرون ببعض الأنبياء أو يقتلونهم والذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة أو عن الله هو المسيح بن مريم فهم أعداؤنا لأنهم أعداء الله ورسله وقد قال الله تعالى لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) لكن لا يمنعنا هذا من دعوتهم إلى الله وإقامة الحجة عليهم ومحاولة إنقاذهم من الكفر كما لا يمنعنا هذا من التعامل معهم فيما أباح الله من إبرام العهود والبيع والشراء وعقد الذمة والهدنة والأمان والإحسان إلى من أحسن إلينا منهم قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) دون أن نحبهم أو أن نتنازل عن شيء من ديننا في سبيل ذلك أو نداهن في ديننا لإرضائهم فقد حاولوا من قبل مع النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءوا إلى عمه أبي طالب وطلبوا أن يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دعوته إلى الله في مقابل أن يبذلوا له المغريات من الملك والجاه والمال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا عم لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى أهلك دونه ، وأمره الله بالثبات على دينه والبراءة من دينهم وأنزل عليه قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فلا يجوز للمسلمين أن يساوموا على دينهم أما التعامل المباح مع الكفار فهو مأذون به شرعاً إذا لم يكن على حساب دين المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
- Log in to post comments