دروس معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
التاريخ: 16/6/1439 هـ
من قول المؤلف: فصل: وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة
إلى قول المؤلف: ومنها: أن امتحانهم بإدالة عَدُوّهم عليهم يُمحّصهم ويُخلّصهُم ويُهَذّبهم
ملخص الدرس:
قال المؤلف: "فصل: وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأصل الأول: أن ما يصيبُ المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك،" ما يصيب المسلمين من المصائب أكثر مما يصيب الكفار، وذلك لأن المسلمين يمحصون بالمصائب ويطهرون بها، وأما الكفار فإنما هي زيادة العذاب لهم، والمسلمون تقتصر عقوباتهم في الدنيا، وأما الكفار عقوباتهم في الآخرة ولذلك تقل عقوباتهم في الدنيا ويتمتعون فيها. أنتم ترون الكفار وما عندهم من القوة والأموال، وهذا متاع قليل، وليس لهم عاقبة إلا النار – والعياذ بالله - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ "وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظَّلَمة بكثير." الأبرار جمع البر، وهو التقي العابد، مأخوذ من البِر، وما يصيبهم أكثر مما يصيب الفجار؛ لأن ما يصيب المؤمنين يخلصهم الله به من عقوبة الآخرة ويطهرهم به ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.
"الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرونٌ بالرضا والاحتساب، فإن فاتَهُم الرضا فمعَوَّلهم على الصبر والاحتساب،"
المؤمنون مصائبهم مقرونة بالرضا عن الله - سبحانه وتعالى – يعلمون أن ما أصابهم من المصائب إنما هي في صالحهم، يمحصهم الله به ويخلصهم من ذنوبهم، فتقر أعينهم بذلك، ويصبرون على ما يصيبهم؛ لأن الله يسليهم بما أمامهم من النعيم والجزاء مما لا تتصوره العقول خلاف الكافر، فليس له مستقل إلا النار، أما المسلم له مستقبل وهو الآخرة يؤمنه ويرجو وتقر عينه به. "وذلك يُخفِّف عنهم ثقلَ البلاء ومَؤُونته،" الصبر يخفف عنهم الثقل والبلاء، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فالصلاة تعينهم على المصائب، (إن الله مع الصابرين) هي معية رحمة ونصر وتأييد، معية خاصة. "فإنهم كما شاهدوا العِوَض هان عليهم تحمُّل المشاقّ والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم،" ليس لهم في صبرهم أجر وعاقبة، فهم كالبهائم. "وقد نبَّه سبحانه على ذلك بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]" (ولا تهنوا) أي: لا تضعفوا ابتغاء القوم الكفار بقتالهم، وما ينالكم في القتال من المشاق الذي كتب لكم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ المسلمون أعطاهم الله الصبر الذي يغطي ما يصيبهم من الآلام؛ ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي تألمون، أي: توجعون؛ فإن الكفار يألمون كما تألمون، وهم لا عاقبة لهم إلا النار، فهذا الألم الذي يصيبهم مقدمة لما هو أكبر منه في الآخرة، ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ هذا ما يسلي المسلمين أن لهم العاقبة الحميدة، وأما الكفار فليس لهم عاقبة إلا النار، وليس لهم عاقبة تسليهم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ كان الله وما يزال عليما بكل شيء وحكيما بما أمر به وينهى عنه ويشرعه، والحكمة هو وضع الشيء في موضعه؛ والله حكيم: له معنيان؛ الأول: من الحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، والثاني: من الإحكام والاتقان، فالله متقن للأشياء. "فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزُّلْفَى من الله تعالى." امتاز المؤمنون برجاء الأجر من الله، من المستقبل الطيب ما لا يرجون الكفار؛ لأن ما أماهم أشد وهو العذاب المتواصل – والعياذ بالله.
"الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أُوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يُحْمَل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجَز عن حمله، وهذا من دَفع الله عن عبده المؤمن،" فالمؤمن إذا أصابه شيء فليتسلى ويتحمل؛ لأنه يرجو من الله العاقبة الحميدة والنصر في الدنيا والعاقبة في الآخرة. "فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لابدّ له من شيء منه دَفع عنه ثقله ومَؤُونته ومشقَّته وتبعته." فالمؤمن إذا أصابه ما يؤلمه، فهناك ما يحمله عنه من وعد الله بنصره وجنته وبما عنده من الخير للمؤمنين، فالمسلمون تقر أعينهم بذلك، ويصبرون على المصائب؛ لأنهم يترقبون الفرج من الله – عز وجل.
"الأصل الرابع: أن المحبَّة كلَّما تمكَّنت في القلب ورَسَخت فيه كان أذى المُحِبِّ في رضا محبوبه مُسْتحلىً غير مسخوط، والمحبُّون يَفْتَخِرُون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لَئنْ سَاءَني أَنْ نِلْتِنِي بَمسَاءةٍ ... لَقَدْ سَرّنيِ أَنيِّ خَطَرْتُ بِبَالِكِ
فما الظنّ بمحبة المحبوب الأعلى، الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمةٌ منه له وإحسانٌ إليه؟" إذا تذكروا أن الله يمتحنهم لا ليهلكهم ويدمرهم وإنما ليذكرهم بالخطأ الذي ارتكبوا، فيربيهم الله – سبحانه وتعالى – ثم تكون العاقبة الحميدة والمستقبل المشرق لهم؛ فالمؤمن يتحمل إذا تذكر هذا.
"الأصل الخامس: أن ما يصيبُ الكافر والفاجرَ والمنافق من العِزِّ والنصر والجاه دون ما يحصلُ للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذُلٌّ وكسرٌ وهوانٌ، وإن كان في الظاهر بخلافه." ما يصيب المؤمنين ينجبر بما لهم عند الله – عز وجل – وهذه المصيبة يؤجرون عليها، ويخلصهم الله بها من خطاياهم ومن خطأهم، فهي في صالحهم، فإذا تذكروا هذا هاونت عليهم المصائب، وتذكروا أن الله لا يصيبهم ليبغضهم، وإنما يصيبهم لأنه يحبهم، ومن محبته لهم أن يخلصهم من ذنوبهم ويمحصهم، ويدخر لهم الأجر والثواب؛ ولا شك أن هذه الدنيا وما فيها ومن النعم دار كدر، وإنما خوفه من المستقبل يكدر عليه هذه النعم. "قال الحسن رحمه الله: إنهم وإن هَمْلَجتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَت بهم النِّعال، إنّ ذلّ المعْصية لفي قلوبهم، أبَى اللهُ إلا أن يُذِلّ مَنْ عصاه." الحسن البصري: إمام التابعين، كلامه يشبه كلام الأنبياء؛ لأن الله أعطاه هذا العلم النافع، فكلماته تمدح بالخير ومن ذلك هذه الكلمات. (إنّ ذلّ المعْصية لفي قلوبهم) المظاهر لا تكفي، الكلام على القلوب وطمأنينة ونعيم القلوب، فذل المعصية في قلوبهم؛ فإذا كانوا أذلاء في قلوبهم فإنهم لا يجدون لذة من هذه النعم والمظاهر وإن تظاهروا بها. المؤمن في خير ونعيم وإن ليس في يده شيء من الدنيا، حتى قال بعضهم: إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه فإنهم في عيش طيب، قلبوهم عامرة بالذكر والإيمان والطاعة، منورة بنور الله ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ المشكاة: قلب المؤمن فيه نور أعطاه الله له حتى أصبح قلبه كالمشكاة، يعني: في القوة الضيقة التي تجمع النور، شبه الله بها قلب المؤمن لما فيه من الإيمان واليقين والعلم النافع وإن لم يكون في يده شيء من الدنيا ومظاهرها، فهو في عيش طيب، ولذة ونعمة وإن كان خالي اليد، بخلاف الكافر لو جمعت له الدنيا ومظاهرها، إلا وأن قلبه خائف خجل من مستقبله، وهو يعلم أن مستقبله سيء، لا يتلذذ بالمظاهر، وإن هَمْلَجتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَت بهم النِّعال، إنّ ذلّ المعْصية لفي قلوبهم، كما قال الحسن – رحمه الله - أبَى اللهُ إلا أن يُذِلّ مَنْ عصاه، ولو عنده المظاهر الدنيا فالكافر ذليل في قلبه.
"الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدّواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته،" هذا الأصل هو: أن ما أصاب به المؤمن هو دواء له وإن كان فيه مذاق مر؛ مثل الدواء، فقد يكون في الدواء مذاق مر، ولكن عاقبته طيبة، يعالج المرض ويقوي الجسم، وما يصيب الكافر هلاك عاجل؛ فهذا الفرق بين المسلمين والكفار؛ فإن بعض الناس يغتر بما عند الكفار من القوة والصناعة والمناظر الجميلة والحضارة، ولكنه لا ينظر في العواقب، وما عاقبتهم؟ لا تنفعهم هذه الأشياء، والعبرة بالعواقب، والمؤمن وإن ناله فقر فهو راض بما عند الله وهو مطمئن، والإيمان الذي في قلبه هو التجارة. "أو نقصَت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاءُ والامتحانُ منه تلك الأدواء، ويستعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة. ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له)." فالمؤمن بين شاكر وصابر: شاكر على النعمة وصابر على البلية - ولله الحمد – فهو في نعمة وخير في حياته وبعد مماته وإن لم يكن في يده شيء من الدنيا ومتاعها، فإن الله قد يحجبه عنه لا لأنه يبغضه ولكن لمصلحته ألا يغتر بها أو تلهيه من طاعة الله – عز وجل – أو يحصل عنده كبر أو نحو من ذلك؛ حِكَمٌ عظيمة فيما يصيب المؤمن في هذه الدنيا، فهو خير له وإن كان ظاهره مؤلم ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وقال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: فرض عليكم قتال الكفار ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ لأن فيه سفك للدماء وجراح وخوف ولقاء للعدو، ولكنه خير لكم، يكف الله به عنكم أعداءكم، ويكتب لكم من الأجر، ويرفع لكم به الدرجات في الجنات؛ فإن في الجنة مئة درجة اعد الله للمجاهدين في سبيله وما بين كل درجتين كما بين السموات والأرض، قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
"فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يُبتلى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدّد عليه البلاء، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه" أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ ليرفع لهم الدرجات، فيبتلى الإنسان بحسب إيمانه «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.» "ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة" طهره الله به من الذنوب؛ لأن الله غسل الخطايا بالمصائب التي تصيبه.
"الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمنَ في هذه الدار من إدالة عَدوِّه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان، أمرٌ لازم لابدَّ منه، وهو كالحَرِّ الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمةُ أحكم الحاكمين." ما من أحد في الدنيا – حتى البهائم يصيبها ما يصيبها من الأمراض والأسقام والجوع والعطش، فكيف ببني آدم؟! فما يصيبهم أشد؛ الدنيا دار ابتلاء وامتحان وليست دار نعيم ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ "فلو تجرَّد الخيرُ في هذا العالم عن الشرّ، والنفعُ عن الضرّ، واللَّذَّة عن الألم، لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تَفوتُ الحكمة التي مُزج لأجلها بين الخير والشرّ، والألم واللذة، والنافع والضار." لو نعم الناس في هذه الدنيا ويعطوا ما يريدون، وكف عنهم ما يكرهون ما تمميز المؤمن من الكافر، والله يريد أن يمير الخبيث من الطيب، ولكي يتميز المؤمن الذي يصبر ويرضى عن الله من الكافر الذي يجزع ويسخط ويكره هذه الأمور التي لو صبر عليها كانت في صالحه. "وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دارٍ أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]." من المؤمنين من يعمل عملا صالحا ويجاهد في سبيل الله، ولا يترك مجالا من الخير إلا وهو يفعله ثم يموت وما نال من جزاء ذلك شيئا. لماذا؟ لأن جزاؤه في الآخرة وليس جزاؤه في الدنيا، والله أحكم الحاكمين، لا يمكن أن يضيع عمل عامل؛ فإن لم يعط المؤمن شيء من هذه الدنيا وهو رجل عمال مطيع، فذلك لأن الله ادخر أجره في الآخرة؛ فالدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، والكافر ادخر الله عقوبته في الآخرة، وهذا من أدلة البعث: أن الناس يعملون في هذه الدنيا من خير وشر ولا ينالون من أجورهم شيئا، والله لا يظلم أحد، وهذا يدل على أن هناك دارا أخرى فيها الجزاء.
"الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عَدُوّهم لهم وقهرهم وكَسرهم لهم أحيانًا، فيه حِكَم عظيمةٌ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عُبوديّتهم وذُلهم لله، وانكِسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرَهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبَطِروا وأَشِرُوا، ولو كانوا دائمًا مَقهورين مَغلوبين منصورًا عليهم عدوُّهم لما قامت للدِّين قائمةٌ، ولا كانت للحقّ دولةٌ." ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ مرة للمؤمنين ومرة للكفار، ولكن المؤمن ما يجري عليه فهو تطهير له وتمحيص، وما يجري على الكافر فهو إملاء له ليزداد إثماً ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وقد يعجب قاصر الأنظار وضيف الإيمان مما عند الكفار من القوة والبلاد المزهرة، والمسلمون في هذه الصحاري الجافة اليابسة التي ما فيه شيء، نقول: هذا لحكمة من الله تعالى؛ لأن الله لو أعطى المؤمنين في هذه الدنيا جزاءهم لأشروا وبطروا، والله لا يظلم أحد، ويعجل للكافر حسناته إذا أحسن فالله يجزيه في الدنيا، وأما المؤمن فالله يدخر جزاءه في الآخرة وقد يعطيه في الدنيا ما يساعده ويعينه، ولكن الجزاء الأوفى فهو في الآخرة ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الحيوان، يعني: الحياة الكاملة التي لا يعترض موت ولا فقر وأي ما يؤلم فهي في الآخرة، وأما الحياة الدنيا فهي حياة منتهية بالموت والفناء. "فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبتهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً،" كما في غزوة بدر وغزوة أحد، ولو كان المسلمون دائما منتصرون ما كفر أحد، ولو كانوا دائما معذبون ولا يحصلون على شيء ما آمن أحد، والله يداوله بين هذا وهذا ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ والله له فيه حكم من الفقر والغنى والعافية والمرض. "فإذا غُلِبوا تضرّعُوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلَبوا أقامُوا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عَدُوّه، ونصروا أولياءه." هذا شأن المؤمنين.
"ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قَصْدُهُ الدِّين ومتابعةَ الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى مَن له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يَدخُل معهم أحدٌ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارة، فيتميّز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه." الله يجري ما يجريه من الابتلاء والامتحان، ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ نحن لا نعلم الصادق من الكاذب إلا بالمصائب والمجريات التي تجري.
"ومنها: أنه سبحانه يُحِبّ مِنْ عباده تكميلَ عُبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عُبُودِيّة بمقتضى تلك الحال، لا تحصلُ إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيمُ الأبدان إلا بالحَرّ والبَرْد، والجوع والعطش والنَّصب وأضدادها، فتلك المِحَنُ والبلايا شَرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ."
الفوائد الحسان من دروس الفوزان.
فوائد درس إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان-16-06-1439هـ.
الفائدة الأولى: ما يصيب المسلمين من المصائب أكثر مما يصيب الكفار، وذلك لأن المسلمين يمحصون بالمصائب ويطهرون بها، وأما الكفار فإنما هو زيادة عذاب لهم، والمسلمون تقتصر عقوباتهم في الدنيا أما الكفار فعقوباتهم والعياذ بالله في الآخرة، فلذلك تقل عقوباتهم في الدنيا، ويمتعون فيها، أنتم ترون الآن الكفار وما عندهم من القوة ومن الأموال ومن الحضارة متاع قليل، وليس لهم عاقبة إلا النار والعياذ بالله. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ).
الفائدة الثانية: ما يصيب الأبرار، جمع بر وهو التقي العابد، من البر، فما يصيب الأبرار أكثر مما يصيب الفجار؛ لأن ما يصيب المؤمنين يخلصهم الله به من عقوبة الآخرة، ويطهرهم به، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
الفائدة الثالثة: المسلمون مصائبهم مقرونة بالرضا عن الله سبحانه وتعالى، يعلمون أن ما أصابهم فهو في صالحهم، يمحصهم الله به ويخلصهم من ذنوبهم، فهم تقر أعينهم بذلك، ويصبرون على ما يصيبهم؛ لأن الله يسليهم بما أمامهم من النعيم ومن الجزاء الذي لا تتصوره العقول، بخلاف الكافر ليس له مستقبل إلا النار، المسلم له مستقبل في الآخرة يؤمله ويرجوه وتقر عينه به، وأما الكافر فليس له مستقبل إلا النار والعياذ بالله.
الفائدة الرابعة: الصبر يخفف على المؤمنين ثقل الابتلاء، قال الله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). فالصلاة تعينهم على المصائب، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). فهذه المعية معية رحمة ومعية نصر وتأييد، معية خاصة.
الفائدة الخامسة: الكفار ليس لهم في صبرهم أجر، وليس في صبرهم لهم عاقبة، فهم كالبهائم.
الفائدة السادسة: قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). (وَلَا تَهِنُوا) أي: لا تضعفوا (فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) أي الكفار في قتالهم، وما ينالكم في القتال من المشاق، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فالمسلمون يصبرن، أعطاهم الله الصبر الذي يغطي ما يصيبهم من الآلام.
الفائدة السابعة: قوله تعالى: (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ). (إِن تَكُونُوا) أيها المؤمنون (تَأْلَمُونَ) أي تتوجعون فإن الكفار (يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ). وهم لا عاقبة لهم إلا النار، فهذا الألم الذي يصيبهم مقدمة لألم أكبر منه في الآخرة. (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ). هذا الذي يسلي المؤمنين أنهم يرجون العاقبة الحميدة، وأما الكفار فليس لهم عاقبة إلا النار، ليس لهم عاقبة تسليهم وتصبرهم.
الفائدة الثامنة: قوله تعالى في الآية:( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). أي (وَكَانَ اللَّهُ) ولا يزال سبحانه وتعالى (عَلِيمًا) بكل شيء، (حَكِيمًا) فيما يأمر به وما ينهى عنه، وما يشرعه، حكمة، والحكمة وضع الشيء في موضعه، الله حكيم له معنيان: من الحكمة وهي وضع الشيء في موضعه هذا واحد، الثاني: أن الله سبحانه وتعالى حكيم بمعنى متقن للأشياء من الإحكام والإتقان.
الفائدة التاسعة: المسلمون والكفار اشتركوا في الألم، (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ). اشتركوا في الألم لكن امتاز المؤمنون بأنهم يرجون من الله من المستقبل الطيب
(مَا لَا يَرْجُونَ) أي: ما لا يرجوه الكفار؛ لأنه ليس أمامهم إلا ما هو أشد وأنكى وهو العذاب المتواصل والعياذ بالله.
الفائدة العاشرة: المؤمن إذا أصابه شيء وآلمه شيء فإنه يتسلى ويتحمل؛ لأنه يرجو من الله سبحانه وتعالى العاقبة الحميدة والنصر في الدنيا والعاقبة في الآخرة، فالمؤمن إذا أصابه ما يؤلمه فهناك ما يحمل هذا الألم عنه من وعد الله جل وعلا بنصره، وبوعد الله بجنته، وبوعد الله جل وعلا بما عنده من الخير للمؤمنين، فالمسلمون تقر أعينهم بذلك، ويصبرون على المصائب؛ لأنهم يترقبون الفرج من الله عز وجل.
الفائدة الحادية عشرة: إذا تذكر المسلمون أن الله جل وعلا يمتحنهم لا ليهلكهم ويدمرهم وإنما ليذكرهم بخطئهم ليتجنبوه، يربيهم سبحانه وتعالى، ثم تكون العاقبة الحميدة والمستقبل المشرق، فالمؤمن يتحمل ما يصيبه إذا تذكر هذا.
الفائدة الثانية عشرة: ما يصيب المؤمنين ينجبر بما لهم عند الله عز وجل، وهذه المصائب يؤجرون عليها، ويخلصهم الله بها من خطاياهم ومن خطئهم فهي في صالحهم، إذا تذكروا ذلك هانت عليهم المصائب، وتذكروا أن الله لا يصيبهم لأنه يبغضهم وإنما يصيبهم لأنه يحبهم، ومن محبته لهم أنه يخلصهم من ذنوبهم ويمحصهم، ويدخر لهم الأجر والثواب الذي يجدونه، فلا شك أن الدنيا دار كدر حتى وإن أعطي الإنسان فيها ما يعطى من النعمة إلاَّ أن ما في قلبه وخوفه من المستقبل يكدر عليه هذه النعم التي يرفل فيها.
الفائدة الثالثة عشرة: الحسن-رحمه الله-إمام التابعين كلامه يشبه كلام الأنبياء؛ لأن الله أعطاه هذا العلم النافع، فكلماته كلها تنضح بالخير من ذلك قوله رحمه الله عن الكفار: "إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه". فالمظاهر لا تكفي، الكلام عن القلوب وطمأنينة القلوب ونعيم القلوب، فهم ذل المعصية في قلوبهم، فإذا كانوا أذلة في قلوبهم فإنهم لا يجدون لذة في هذه النعم وهذه المظاهر وإن تظاهروا به.
الفائدة الرابعة عشرة: المؤمن في خير وإن كان ليس بيده شيء من الدنيا، هو في خير وفي نعيم حتى قال بعضهم: "إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب"، قلوبهم عامرة بالإيمان، بالذكر، بالطاعة، منورة بنور الله، (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ). هذا قلب المؤمن فيه نور، أعطاه الله النور في قلبه حتى أصبح قلبه مثل المصباح في المشكاة، يعني في الكوة الضيقة التي تجمع النور حتى يكون قويًّا، هكذا قلب المؤمن، شبهه الله سبحانه وتعالى: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) هذا قلب المؤمن وما فيه من الإيمان واليقين والعلم النافع وإن لم يكن بيده شيء من متاع الدنيا وحطامها، فهو في عيش طيب، ولذة ونعمة، وإن كان خالي اليد.
الفائدة الخامسة عشرة: الكافر لو جمعت له الدنيا ومظاهرها إلا أن قلبه خائف وجل من مستقبله، يعلم أنه له مستقبل سيء، هو عاقل يعلم هذا، لا يتلذذ بالمظاهر وإن أعطيها، "وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم النعال ذل المعصية في قلوبهم" كما قال الحسن-رحمه الله-، أبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يذل من عصاه، فهو ذليل، فالكافر وإن كان عنده مظاهر وعنده قوة ظاهرة لكنه ذليل في قلبه.
الفائدة السادسة عشرة: ما أصاب الله به المؤمن هو دواء له، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا). فهو دواء وإن كان فيه مذاق مُرٌّ مثل الدواء، الدواء يكون فيه مذاق مر لكن عاقبته طيبة، يعالج المرض ويقوي الجسم، فما يصيب المؤمن مثل الدواء، وما يصيب الكافر والعياذ بالله هلاك عاجل وذلٌّ عاجل، في فرق بين المسلمين والكفار لو تأملنا هذا.
الفائدة السابعة عشرة: بعض الناس يغتر بما عند الكفار من القوة ومن الصناعات ومن المناظر الجميلة ومن الحضارة، لكن ما ينظر في العواقب، وش هي عاقبتهم؟ عاقبتهم سيئة، ما تنفعهم هذه الأشياء، العبرة بالعواقب، والمؤمن وإن ناله فقر وناله حاجة فهو راض بما عند الله مطمئن وإن لم يكن في يده شيء، الإيمان هو التجارة وهو النور، الإيمان الذي في قلبه.
الفائدة الثامنة عشرة: المؤمن بين شاكر وصابر، شاكر على النعمة، وصابر على البلية، فهو شاكر صابر، هذا حال المؤمن ولله الحمد، فهو في نعمة وفي خير في حياته وبعد مماته، هو في خير متواصل من الله جل وعلا وإن لم يكن بيده شيء من الدنيا ومتاعها، فإن الله قد يحجبها عنه لا لأنه يغضبه، لكن يحجبها عنه لمصلحته، لئلا يغتر بها أو تلهيه عن طاعة الله عز وجل، أو يحصل عنده كبر، أو نحوا من ذلك، حكم عظيمة فيما يصيب المؤمن في هذه الدنيا خير له وإن كان ظاهره أنه مؤلم فهو خير له.
الفائدة التاسعة عشرة: قوله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) القتال، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)، يعني فرض، فرض (عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) قتال الكفار، (وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ)؛ لأن فيه سفك دماء، وفيه جراح، وفيه خوف ولقاء للعدو لكن هو خير (وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) يكف الله به عنكم أعداءكم، يكتب الله لكم به الأجر، يرفع لكم به الدرجات في الجنات: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" للمجاهدين في سبيل لله. (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ) فالقاعدون من المؤمنين وعدهم الله بالحسنى، والمجاهدون وعدهم الله، وما وعد الله به المجاهدين أكثر وأكثر.
الفائدة العشرون: في الحديث: "أشد الناس بلاء الأنبياء"، يبتليهم الله عز وجل؛ لأجل أن يرفع من درجاتهم، "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، حسب الإيمان، فالمؤمنون على خير، إن أصابتهم سراء شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا، "عجبا لأمر المؤمن إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن".
الفائدة الحادية والعشرون: في الحديث: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة"، طهره الله منها بما أصابه، ولأن الله غسل الخطايا بالمصائب التي تصيب المؤمن، وما من أحد في هذه الدنيا حتى البهائم يصيبها ما يصيبها من الأمراض والأسقام والجوع والعطش، فكيف ببني آدم؟ ما يصيبهم أشد، الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ليست دار نعيم فهي دار ابتلاء وامتحان، (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
الفائدة الثانية والعشرون: لو نُعِّم الناس كلهم في هذه الدنيا وأُعطُوا ما يردون وكُفَّ عنهم ما يكرهون ما تميز المؤمن من الكافر، الله يريد: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). الله يجري هذه الابتلاءات والامتحانات على العباد ليتميز المؤمن الذي يصبر ويرضى عن الله من الكافر الذي يجزع ويسخط ويكره هذه الأمور التي لو صبر عليها كانت في صالحه.
الفائدة الثالثة والعشرون: من المؤمنين من يعمل الأعمال الصالحة ويجاهد في سبيل الله ولا يترك مجالا من الخير إلا ويفعله ثم يموت ولا ينال من جزائه شيئا؛ لأن جزاءه في الآخرة وليس في الدنيا، والله أحكم الحاكمين لا يمكن أن يضيع عمل عامل، فإذا لم يعط المؤمن شيئا في هذه الدنيا وهو رجل عامل مطيع فهذا لأن الله ادخر له أجره في الآخرة، الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء. كثيرا ما يُرى المؤمن يجاهد ويتصدق ويعمل ويعمل ولا ينال شيئا من أجره؛ لأن الله ادخره له في الدار الآخرة، ويُرى الكافر والمشرك والفاسق يعمل الأعمال الخبيثة ولا يناله عقوبة في هذه الدنيا؛ لأن الله ادخر عقوبته في الآخرة، وهذا من أدلة البعث، أن الناس يعملون في هذه الدنيا بالخير وبالشر ولا ينالون من أجورهم شيئا، والله لا يظلم أحدا، فدل هذا على أن هناك دار أخرى فيها الجزاء.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). مرة للمؤمنين ومرة للكفار، لكن المؤمن ما يجري عليه تطهير له وتمحيص، وما يجري على الكافر فهو إملاء له ليزداد (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). قد يعجب قاصرو النظر أو بعض ضعيفي الإيمان يقول: لماذا الكفار في هذه النعمة وهذه القوة وهذه البلاد المزهرة والمسلمون في هذه الصحاري الجافة واليابسة التي
ما فيها شيء نقول هذا لحكمة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لو أعطى المؤمنين في هذه الدنيا جزاءه لأشروا وبطروا، والله لا يظلم أحدا، يعجل للكافر حسناته، فالله لا يظلم أحدا حتى الكافر، إذا أحسن الكافر الله يجزيه لكن يعجل جزاءه في الدنيا، أما المؤمن فالله يدخر له جزاءه في الآخرة، وقد يعطيه في الآخرة ما يساعده ويعينه لكن الجزاء الأوفى في الآخرة، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (الْحَيَوَانُ) يعني الحياة الكاملة. الحياة الكاملة في الآخرة، أما الحياة الدنيا فهي حياة منتهية بالموت والفناء، وأما الآخرة فهي الحيوان، الحياة الدائمة التي لا يعتريها موت ولا مرض ولا فقر، ولا أي شيء مما يؤلم.
الفائدة الخامسة والعشرون: المسلمون انتصروا في بدر، قتلوا من الكفار سبعين، وأسروا منهم سبعين، في السنة التي بعدها وقعة أحد، قتل من المسلمين أكثر من سبعين واستشهدوا، وأسر منهم من أسر، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). يداول الله الأيام بين الناس ابتلاءً وامتحانًا، لو كان المسلمون دائما ينتصرون ما كفر أحد على وجه الأرض، ولو كانوا دائما معذبين ولا يحصلون على شيء ما آمن أحد، فالله يداول الأيام بين هذا وهذا.
الفائدة السادسة والعشرون: الله جل وعلا له حكم فيما يجري من الخير والشر، من النصر والهزيمة، من الصحة والمرض، من الفقر والغنى، والله جل وعلا يجري ما يجري على الناس للابتلاء والامتحان، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). نحن لا نعرف الصادق من غير الصادق إلا بالمصائب والمجريات التي تجري.
الأسئلة المنتقاة من الدروس الملقاة لمعالي الشيخ صالح الفوزان.
أسئلة درس إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الأحد-16-06-1439هـ.
السؤال الأول: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل"، هل يدل هذا الحديث على أن جميع الأمة لا تعذب حتى العصاة منهم؟
الجواب: قد يعذب العصاة بقدر ذنوبهم لكنهم لا يخلدون في النار، العصاة من المؤمنين قد يعفو الله عنهم، وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة، حتى إنه ورد أنهم يخرجون من النار كالفحم، متفحمون من النار، فيُلْقَوْن في نهر يُسمَّى نهر الحياة فتنبت أجسامهم وتعود لهم قواهم ثم يدخلون الجنة بعد ذلك، فالمؤمن يصاب أيضا، يصاب بذنوبه، لكنه لا يستأصل مثل ما يستأصل الكافر.
السؤال الثاني: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: في قول الله سبحانه:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ما نوع الفتن التي قد تصيب المؤمن في هذا الأمر؟
الجواب: كثيرة، :( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) يعني يختبرون، الفتنة الاختبار، يختبرون ليظهر الصادق في قوله آمنا والمنافق الذي إذا أصابته مصيبة انقلب على عقبيه، كما قال الله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ) هذا الذي إيمانه ضعيف غير متمكن، وهذا المنافق أيضا، فالله يبتلي العباد بالمكاره وهذا من صالحهم.
السؤال الثالث: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: إذا لم يصب المؤمن بمصائب في الدنيا، فهل يجب أن يقلق من هذا الأمر؟
الجواب: يسأل الله العافية، لكن ما هو صحيح ما هنا مؤمن ما يجري عليه ما يجري في هذه الدنيا.
السؤال الرابع: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: يحاول أرباب الشهوات إخراج المرأة المسلمة من حشمتها وسترها بطرق وحيل متعددة، ما النصيحة لفتيات الإسلام حيال هذه الفتن والابتلاءات التي تحيط بها، وما هي أسباب ثباتهنَّ على الحق التي تنصحونهن بها؟
الجواب: عليهن الثبات على الدين وعلى العفة والحشمة والحياء، ولا يغرهنَّ كلام هؤلاء الأعداء الذين يريدون أن يوقعوهن في البلاء وفي الانحراف، لا تلتفت المسلمة إلى كلام الأعداء، ولا تنخدع بمقولتهم أنهم ينتصرون للمرأة، وأن المرأة مظلومة، وأن المرأة مهانة، هذا كذب، المسلمة عزيزة ولله الحمد، معززة مكرمة بالإيمان والدين والحشمة، فهي عزيزة مكرمة عند الله وعند خلقه.
السؤال الخامس: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: في قول الله سبحانه: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)، يقول ما المراد بالوسيلة؟
الجواب: القرب، الوسيلة القرب، (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) بطاعته سبحانه وتعالى، الطاعة وسيلة؛ لأنها تقرب من الله سبحانه وتعالى، وليس المراد بالوسيلة ما يقوله الخرافيون أنك تتخذ بينك وبين الله واسطة تقربك إلى الله وتشفع لك عند الله، هذا كذب وافتراء وجهل.
السؤال السادس: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: إذا كان هناك جماعة في استراحة، فهل يجوز لهم أن يقيموا صلاة الجماعة في هذه الاستراحة ولا يذهبوا إلى المسجد، علما بأن معهم كبار سن وأطفال؟
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر"، قيل وما العذر؟ قال: "خوفٌ أو مرضٌ". فلا يسعهم وهم يسمعون الأذان قريبا منهم أن يتركوا الحضور، يذهبون والعاجز يصلي في مكانه، العاجز المريض وكبير السن يصلي في مكانه والحمد لله.
السؤال السابع: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: هناك ترجمة لمعاني القرآن باللغة الإنجليزية ترجموا معنى هذه الآية: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). قالوا معنى ذلك وترجمته: "لقد أخفى الحقيقة من قال إن الله هو المسيح". هل هذا المعنى وهذه الترجمة صحيحة؟
الجواب: هذا كلام باطل، ما هو الإنجليز ألي يترجمون القرآن، يترجمه المسلمون أهل الإيمان، أهل العربية الصحيحة، ما يترجمه الإنجليز ولا الأمريكان، ما يتولونه ولا يمكنون منه، ترجمتهم مردودة.
السؤال الثامن: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: رجل توفي وقد توفاه الله منتحرا، هل يجوز أن يعتمر وأن يحج عنه؟
الجواب: كونه منتحر لا يجعله كافرا، قتل نفسه، هذا قاتل لنفسه وهذا لا يقتضي أنه يكفر بذلك فيعتمر عنه.
السؤال التاسع: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: بعض الناس عندما يصيبه شيء أو يخيفه شيء، فإنه يدعو فيقول: يا أنبياء يا صالحين، ما حكم ذلك؟
الجواب: هذا شرك بالله عز وجل، الدعاء هو أعظم أنواع العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" يعني أعظم أنواع العبادة، فلا يجوز أن يدعى غير الله سبحانه وتعالى.
السؤال العاشر: فضيلة الشيخ وفقكم الله هذا سائل يقول: ما حكم من يسمى بالقرآنيين الذين ينكرون الحديث الشريف ويقولون: نكتفي بالقرآن فقط؟
الجواب: هذا كفر بالله عز وجل؛ لأن الحديث وحي من الله عز وجل، هو الوحي الثاني بعد القرآن، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ). كلام الرسول وحي من الله عز وجل، لفظه الرسول ولكن معناه من الله سبحانه وتعالى.