التاريخ: 1/3/1439 هـ
من قول المؤلف: فصل: ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع
إلى قول المؤلف: ولكن نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهي: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب
قال المؤلف: "فصل: ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك." من صفات الله: الرحمة، كما قال تعالى ﴿وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ومن أسمائه: الرحمن والرحيم؛ والرحمة معناها: إيصال المنافع والخيرات إلى العباد رحمة بهم؛ وهناك رحمة عامة لجميع المخلوقات، وهي يتضمنها اسمه (الرحمن) وهناك رجمة خاصة للمؤمنين يتضمنها اسمه (الرحيم) قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]. ربما كره العبد شيئاً يحصل له وفيه خيراً كثيراً ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216] "فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم." هذه هي التربية الحسنة؛ لأن الشاب والولد لا يدرك منافعه، والوالد أعلم بمصالح ولده؛ فالتربية الحسنة ليست أن تعطي الولد ما تشتهي ولكن التربة الحسنة هي أن يربي الوالد ولده على ما ينفعه ولو يكرهه، ومن ذلك مراقبة الولد، والسؤال عنه، وتفقد أحواله، ومن أهم ذلك معرفة جلسائه. فالرحمة له أن تعلمه وتؤدبه وعطاءه ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة فالعاقبة طيبة إن شاء الله؛ والأم وكثير من الآباء لا يتصورون العواقب إلا بعد أن وقعت.
"ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه." قال الله في حديث قدسي: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر؛ والله يبتلي عبده بما يكرهه والنتيجة خيراً له "وقد جاء في الأثر "إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ " وفى أثر آخر "إن الله إذا أحب عبداً حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمى أحدكم مريضه". فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه." الله يبتلي بخير وبشرّ؛ لأن عاقبة ابتلاء المؤمنين حميدة وعاقبة استدراج الكفار سيئة، كالمريض يمنع مما يضره من الشراب والطعام للعلاج. "كيف؟ وهو الجواد الماجد، الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب وجود أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها." والجواد: كثير الجود والإعطاء والبذل وهو الماجد، تكفل برزق جميع مخلوقاته ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6] وقال رسول الله ﷺ "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا." وهذا لا يكلفه وهو الغني، فكل المخلوقات تعش على رزق الله.
"فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغنى الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم." الله تعالى أمر بالصلاة والصيام والهجرة والعمل الصالح؛ فالعبادة نعمة ولو قد تشق على العبد في أول الأمر، ولكن إذا داوم عليها سيرتاح فيها؛ والله ليس بحاجة إلى أن يعبد ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-58] فأمرهم بعبادته لمصلحتهم هم، وهو لا يستفيد وهو الغني عنهم؛ "ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم." فمن رحمته أنه أمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، وقد يحمي الله أحب الناس إليه من الدنيا رحمة به وأعطاها الكفار استدراجا لهم مع أنه يبغضهم وبعذبهم به، ويبتلي عباده لمصلحتهم وهو غني عنهم ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ [الزمر: 7] وفي حديث: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ." وقد يقول بعض الجهال: لماذا الكفار عندهم كل شيء والمسلمون في حالة ضيقة؟ فنقال: هذا من حكمة الله يستدرجهم به ويحمي المسلمين ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 44] فالله أعطى الكفار لا لمصلحتهم ولكن ليستدرجهم لحكمته. "ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوف بِالْعِبًادِ﴾ [آل عمران: 30] قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه، لئلا يغتروا به."
"فصل: ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب. فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله وأوجبه، وبالله التوفيق." فرض الله علينا الدعاء بأن يهدينا صراطه المستقيم في سورة الفاتحة تقرأ في كل ركعة من الصلاة؛ وهي تشتمل على دعاء مسألة ودعاء عبادة أن نكون من ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69] ولا أن نكون من المغضوب عليهم الذين لهم علم ولا يعملون به مثل اليهود، وليس من يعلم كمن لا يعلم، ولا نكون من الضالين الذين يعملون بدون علم وفي مقدمتهم النصارى؛ فإن العمل الصحيح مبني على العلم الصحيح؛ فأنت تسأل في صلاتك أن يهديك الله صراط الذين يعملون بالعلم.
"فصل: إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة، والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب، فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته. فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة، كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف، ولكن وقع الجهل والظلم من بنى آدم بمعنيين: بالدين الفاسد، والدنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم وفى الحقيقة فإنما فيهما ضده. ففاتهم النعيم من حيث طلبوه، وآثروه، ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه.
وبيان ذلك: أن الأعمال التي يعملها جميع بنى آدم إما أن يتخذوها دينا أو لا يتخذوها دينا. والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حق، وإما أن يكون دينا باطلا." لم يكلنا الله إلى أفكارنا ولا آرائنا، إنما قد بين لنا ما يصلح العيش معه، وهذا الصراط المستقيم الذي في سورة الفاتحة.
"فنقول: النعيم التام: هو في الدين الحق علما وعملا. فأهله هم أصحاب النعيم الكامل. كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6-7] وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب: ﴿أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5]" فذكر الله في أول سورة البقرة أن الناس ثلاثة أقسام: المؤمنون، والكفار والمنافقون "وقوله ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتْبَعَ هُدَاى فَلاَ يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه: 123] في الدنيا والآخرة ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ - هذا في البرزخ - ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ - هذا في الآخرة - ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124-126] "وفى الآية الأخرى ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَاى فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38] ، وقوله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لفِي نَعِيمٍ وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13-14] فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة، ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وتضمنته الكتب."
بعض الفوائد من الدرس:
- أن الابتلاء والمتحان من رحمة الله لعباده والعبرة بالعاقبة الحميدة لا بالحاضر.
- أن الله قد يعطي الكفار من الدنيا استدراجاً لهم لا لمصلحتهم، ويمنع بعض المسلمين من زهرة حياة الدينا لمصلحتهم رحمة بهم.
- أن التربية الحسنة هي بتعليم والأديب لما ينفع للولد وليست هي بإعطاء ما يريده والحرية وهذا من رحمة الوالد لولده؛ والوالد ومسؤول عن تربية ولده يوم القيامة.