التاريخ: 29/2/1439 هـ
من قول المؤلف: "باب: أن يكون النفع أو الأجر مجهولاً وجواز استئجار بطعامه وكسوته"
إلى قول المؤلف: "عن جابر: عن النبي ﷺ قال: ما من صاحب إبل ولا بقر.."
"بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ وَالْأَجْرُ مَجْهُولًا وَجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ:"
لا بد من بيان الأجر ومقدار العمل في الإجارة، ولا يكفي أن يتفق المستأجر والأجير على عمل فقط؛ لأن الإجارة نوع من البيع وهي بيع المنفعة؛ فلا بد من بيان العمل والأجرة عليه حتى يكون الطرفان على بينة وبه تقطع الخصومة؛ ويجوز فيها أن تكون الأجرة مؤونة فهي ترجع إلى العرف والعادات المعلومة عند الناس. أما الضرر اليسير الذي قد يحصل في الطعام أو الكسوة فهذا يعفى عنه.
"عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ، وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ." هذا الحديث دليل على أن أنه لا بد من تحديد الأجرة للعمل قطعاً للنزاع؛ والنجش هو ما يزيده في ثمن السلع من لا يريد شراءه، وفيه ضرر على الناس؛ واللمس هو الملامسة بأن يقول أي ثوب لسمته فهو لك بكذا وكذا – وفيه جهالة وضرر؛ وإلقاء الحجر هو أن يلقي الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا وكذا أو أن يلقي الحصاة على مسافة من الأرض فما وقعت عليها فهي لك بكذا وكذا، ويسمى بيع الحصاة؛ كلها فيها جهالة. "وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا قَالَ: نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَعَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ" فكان العرف أن الناس لا يأخذون أجرة على عسب الفحل؛ وقال المؤلف: "وَفَسَّرَ قَوْمٌ قَفِيزَ الطَّحَّانِ: بِطَحْنِ الطَّعَامِ بِجُزْءٍ مِنْهُ مَطْحُونًا، لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ طَحْنِ قَدْرِ الْأُجْرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِهِ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ طَحْنُ الصُّبْرَةِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا وَإِنْ شَرَطَ حَبًّا؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَبَيْعِهَا إلَّا قَفِيزًا مِنْهَ." لأن فيه جهالة.
"وَعَنْ عُتْبَةُ بْنِ النُّدَّرِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَرَأَ ﴿طس﴾ حَتَّى بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ: "إنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ عَشْرَ سِنِينَ، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ." دخل موسى أرض مدين فسقى لامرأتين ثم استأجر نفسه لرعي الغنم لشيخ أرض مدين على أن ينكح إحدى ابنتيه؛ فيه: جواز الاستئجار على العفاف والطعام؛ لأن الضرر فيه يسير يعفى عنه.
"بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْعَمَلِ مُيَاوَمَةً أَوْ مُشَاهَرَةً" – أي: العمل عند شخص شهرا أو يوما – "أَوْ مُعَاوَمَةً أَوْ مُعَادَدَةً:
عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جِعْتُ مَرَّةً جُوعًا شَدِيدًا، فَخَرَجْت لِطَلَبِ الْعَمَلِ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ قَدْ جَمَعَتْ مَدَرًا فَظَنَنْتُهَا تُرِيدُ بَلَّهُ، فَقَاطَعْتُهَا كُلَّ ذَنُوبٍ" أي: دلو "عَلَى تَمْرَةٍ، فَمَدَدْت سِتَّةَ عَشَرَ ذَنُوبًا حَتَّى مَجِلَتْ يَدَايَ،" أي: تأثرت به يداي "ثُمَّ أَتَيْتُهَا فَعَدَّتْ لِي سِتَّ عَشْرَةَ تَمْرَةً، فَأَتَيْت النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَكَلَ مَعِي مِنْهَا." فأقره النبي ﷺ وأكل معه ليطمئنه وهذا من حسن خلقه ﷺ؛ وهذا يدل على جواز مثل ذلك، وكذلك الحديث : "وَعَنْ أَنَسٍ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، فَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمْ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ نِصْفَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ أَخْرَجَاهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الْإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ."
"بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ:" لأنه بيع؛ بيع المنافع
"عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلَا تَبِيعُوهَا." قِيلَ لِسَعِيدٍ مَا لَا تَبِيعُوهَا يَعْنِي: الْكِرَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ." كان هذا في أول الأمر فنهى الرسول ﷺ عن تأجير الأرض لحاجة الناس إليه، ثم رخص فيه لما توسع على المسلمين بعد ذلك.
"بَابُ الْأَجِيرِ عَلَى عَمَلٍ مَتَى يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَحُكْمِ سِرَايَةِ عَمَلِهِ:"
يستحق الأجرة إذا وفى بعمله وأداه ولو تلف شيء بعمله ولم يفرط فلا ضمان عليه. "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ." هذ حديث قدسي؛ فأخبر أنه تعالى خصم ثلاثة وإن سلموا في الدنيا لا يسلمون يوم القيامة؛ الأول: من عاهد ثم خان في عهده، الثاني من باع حرا وأكل ثمنه، مثل من يغتصب الأطفال ثم يبيعهم: إنما سبب رق النساء والأطفال الكفر وأن يكونوا من الغنيمة في القتال؛ والثالث: - وهو محل الشاهد – من استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطيه أجره، وهذا وعيد شديد، وقد جاء في حديث أن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.
"وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ يُغْفَرُ لِأُمَّتِهِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إذَا قَضَى عَمَلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ." أخفى الله ليلة القدر لحكمة وهي من مصلحة العباد كي يجتهدوا في كل الليلة وإلا لم يجتهد إلا تلك الليلة؛ "وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ." رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ." هذا لمن تطبب، أما الطبيب الماهر لا يضمن إذا أصاب المريض شيء لا يعمده؛ لأنه مأذون فيه شرعاً، وإلا فيتعطل الطب ورفض كل الطبيب أن يعالج أحداً؛ أما المتطبب فليس بطبيب؛ هذا يأخذ منه ويضمن.
"كِتَابُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:"
الوديعة هي المال المستحفظ عند ثقة يحفظه ولا ضمان عليه ما لم يفرط؛ وإلا ولم يكون أحد يقبل الوديعة والناس بحاجة إليها. والعارية هي دفع المال إلى من ينتفع به؛ والفرق بينهما أن العارية أخذها الشخص لحظ نفسه لينتفع به وقيل: يضمنه إن تلفت وفرط فيه. "عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ." رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ." أي الوديع إن لم يفرط. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58] فيجب أن يرد الأمانة إلى صاحبها إن طلبها؛ وقال النبي ﷺ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ. وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ." رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، زَادَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ نَسِيَ الْحَسَنُ فَقَالَ: هُوَ أَمِينُكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، يَعْنِي: الْعَارِيَّةَ." وهذا عكس الحديث.
"وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٌ أَدْرُعًا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ،" قال: مؤداة "قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ فَزَعٌ" أي: صوت بالليل "بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ ﷺ فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ فَرَكِبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا." أي فرساً سريعاً قوياً "وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَارِيَّةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد." قال الله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 7] والمعاون ليس ما يظنه الناس أنه الآنية فقط، هي كل ما يحتاج إليه الناس من حبل وقدر وثوب وما أشبه ذلك. "وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إلَّا أَرْسَلَتْ إلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ." فيه فضيلة إعارة الثوب وفضيلة العارية.