من قول المؤلف: "فصل: وأما الثاني من الفتنة: فتنة الشهوات"
قال المؤلف:
"فصل: وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات." الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي في العقيدة – وهي أشد – وفتنة الشهوات وهي في العمل؛ "وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعْوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِهِمْ﴾ [التوبة: 69] أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار سبحانه يى هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو المبدع وما والاها، والثانى: فسق الأعمال. فالأول فساد من جهة الشبهات، والثانى من جهة الشهوات." والبدعة هي ما أحدث في الدين ما ليس منه؛ قال ﷺ "وإياكم ومحدثات الأمور، وكل بدعة ضلالة." الحديث. "ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون." فإن العالم الفاجر لأنه يضل الناس يصدقونه لأنه عالم، وهو فاجر خارج عن طاعة الله؛ فإنه أشد الفتنة على الناس ويفتح لهم أبواب الشرور ويفتيهم باستحلال المحرمات والباطل وما أكثرهم اليوم! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فيجب الحذر منهم، ومن علماء الضلال والفتنة؛ أما العابد الجاهل ما عنده علم ولكن عند بدعة ومحدثات: والعبادة إن لم تكن مبنية على دليل فهي بدعة؛ والبدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن العاصي يتوب من المعصية والمبتدع لا يتوب؛ لأنه يرى أنه على الحق.
"ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24] فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين." قال تعالى ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ بالكتاب والسنة و ﴿لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ وتركوا البدع والمحدثات؛ فإن الشبهات شك والشك يدفع باليقين "وجمع بينهما أيضاً في قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3] فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات." أقسم الله بالعصر؛ لأنه ثمين، جواب القسم: أن كل إنسان في خسارة إلى من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة. قال الشافعي: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. "وجمع بينهما في قوله:
﴿وَاذْكْرُ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ﴾ [ص: 45]" فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك." أولى الأيدي، أي: أولى القوة في دين الله والأبصار من البصيرة وهي العلم. "وقد جاء في حديث مرسل: "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان."
"فصل: إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة. قال تعالى عن موسى وفتاه: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ [الكهف: 65] فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ [الكهف: 10] فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغَى واتباع الهوى.. والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح.. فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعلة، أي مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثُمودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: 59].. فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى.
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون." القرآن حجة لنا أو علينا، وهو في منزلة الدواء، إن تركتها في بيتك ولم تستخدم الدواء لا فائدة فيها، كذلك القرآن: في كل بيت مصحف أو مصاحف ولو تركته في الرفوف فما الفائدة؟ فهو حجة عليك! والهداية لا بد من أخذ الأسباب مثل حضور مجالس الذكر والمحاضرات؛ فالناس هم الذين بأنفسهم يسببون الهداية أو الغواية.
والكثير اتخذ تلاوة القرآن حرفة ويقرؤونه بقرات، ولا ينتفعوا به ولا يهتدون به؛ ورب حامل القرآن يلعن صاحبه! كيف؟ لأنه فيه: لعنة الله على الكافرين؛ ولعنة الله على الظالمين.
"قد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، واتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة، والخوف، ولهم، والغم، والبلاء، والألم، والقلق: مع الضلال والحيرة.
ومثل هدا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنا مطمئنا، والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى: ﴿قلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ كَالّذِي اسْتهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى اُئْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى الله هو الُهدَى﴾ [الأنعام: 71]
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى، هي بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر." واسم الرحمن يدل على رحمة الله العامة لجميع الخلق واسم الرحيم على رحمته الخاصة للمؤمنين
"وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى: ﴿أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحَمةٌ وَأُولئِكَ هُمْ المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 157]..
ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى في أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].
وكان الصديق رضى الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" رواه الترمذي، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدري رضى الله عنه "وكان أبو بكر رضى الله عنه أعلمنا به، يعنى النبي صلى الله تعالى وآله وسلم" فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول، فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقي، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة. فهو الذي يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلمْاً﴾ [الكهف: 65] ، ﴿رَبنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهِّيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ [الكهف: 10]."