من قول المؤلف: "أبواب الإجارة"
إلى قول المؤلف: "باب: أن يكون النفع أو الأجر مجهولاً وجواز استئجار بطعامه وكسوته"
بعد أن انتهى المؤلف من إيراد الأحاديث في أبواب بيع العين وأحكامه انتقل إلى أبواب بيع المنافع؛ فإن الإجارة بيع للمنفعة.
باب: ما يجوز الاستئجار عليه من النفع المباح:
لأنه لا يجوز الاستئجار على النفع المحرم مثل استئجار النمامين والقصاصين أو استئجار من يصنع الخمور وما أشبه ذلك من المحرمات؛ فإنه نفع محرم. "عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ قَالَتْ: وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ فَارْتَحَلَا. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ." والرجل هو: عبد الله بن أريقط الليثي؛ وفيه دليل على استئجار رجل كافر لمنفعة.
"وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا رَعَى الْغَنَمَ" فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ كُنْت أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ: يَعْنِي: كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قَرَارِيطُ: اسْمُ مَوْضِعٍ." كان الأنبياء يرعون الغنم لما فيه من الراحة والسكينة والطمأنينة والهدوء والبركة تربية لهم من الله على النبوية؛ كما كان موسى يرعى الغنم عشر سنين على أن يتزوج إحدى الابنتين. والقيراط، هو: مقدار من النقود.
"وَعَنْ سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْت أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا" وهو نوع من القماش "مِنْ هَجَرَ" وهي الأحساء "فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْشِي، فَسَاوَمَنَا سَرَاوِيلَ فَبِعْنَاهُ وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ، فَقَالَ لَهُ: "زِنْ وَأَرْجِحْ." رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ." هذا من حسن الوفاء، كما قال ﷺ "خيركم أحسنكم وفاءً." أي: أن يرده مع زيادة. "وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إعْطَاءِ شَيْءٍ لِآخَرَ وَلَمْ يَقْدِرْ جَازَ وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ." فإذا لم يقدر الأجرة يقاس بمثله. "وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي بَيْعِهِ جَمَلَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "يَا بِلَالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَزَادَهُ قِيرَاطًا." رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ." فاشترى الرسول ﷺ من جابر - رضي الله عنه – جملاً في طريقه إلى المدينة، فوكل من يعطيه ثمنه وأمره وكيله أن يزيد عليه.
"وَعَنْ رَافِعِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ إلَّا مَا عَمِلَتْ بِيَدَيْهَا، وَقَالَ هَكَذَا بِأَصَابِعِهِ نَحْوَ الْخَبْزِ وَالْغَزْلِ وَالنَّفْشِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد." نهى ﷺ عن كسب الأمة إلا ما عملت بيديها خشية أن تعمل عملاً غير جائز؛ والخبز والغزل والنقش هي من حِرَف الصوف.
باب: ما جاء في كسب الحجّام:
الحجامة نوع من الطب المعروف، وهي: الاستخراج الدم بواسطة المحجم، وفيها شفاء وفائدة ولها أوقات معينة؛ واحتجم النبي ﷺ والحجام قد يأخذ على عمله أجرة – وما جاء فيه من الأحاديث أن كسب الحجام خبيث يحمل على أنه كسب رديء مكروه لا أنه محرم؛ وكلمة (خبيث) قد يطلق على المكروه وعلى المحرم كما قال ﷺ أن البصل خبث وليس هو بمحرم. "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ: "شَرُّ الْمَكَاسِبِ: ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ." وَعَنْ مُحَيِّصَةُ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُطْعِمُهُ أَيْتَامًا لِي؟ قَالَ لَا، قَالَ: أَفَلَا أَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: لَا، فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ ﷺ فِي إجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ فِيهَا حَتَّى قَالَ: "اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ أَوْ أَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ." أما الكلب المعلم يجوز الأخذ عليه بمقابل تربيته وتعليمه لا على أنه ثمنه.
وقد احتجم النبي ﷺ وأعطى الحجام على عمله من باب المكافأة؛ فهذا يدل على أنه حرفة مفيدة مباحة، وعلى جواز كسب الحجام والتداوي بالحجامة إلا وأنه كسبه مكروه؛ كما في الأحاديث: "وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ احْتَجَمَ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: دَعَا غُلَامًا مِنَّا حَجَمَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ صَاعًا أَوْ صَاعَيْنِ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: حَجَمَ النَّبِيَّ ﷺ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ ﷺ أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ» وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ ﷺ."
باب: ما جاء في الأجرة على القُرَب:
أي: على الطاعات مثل الإمامة والأذان والحسبة؛ فإنه لا يجوز إلا من باب الإعانة والمكافأة، وكذلك ما يصرف من بيت المال على لقضاة والدعاة فهو من المصالح فلا بأس به؛ وقد سئل الإمام أحمد عن رجل يأخذ أجرة على الإمامة في صلاة التراويح فأنكر عليه وقال إنه لا يصلي خلفه. "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ." الغلو في القرآن طريقة الخوارج ولا يتجاوز حناجرهم؛ ولا يجفى عنه: بأنك لا تقرأ القرآن وليس لك منه حزب تقرأه كل يوم، وعلى الأقل تختمه في نهاية كل شهر؛ وأنت تقرأ القرآن للأجر من الله لا للأجر من الناس. "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: عَلَّمْت رَجُلًا الْقُرْآنَ فَأَهْدَى لِي قَوْسًا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: "إنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْت قَوْسًا مِنْ نَارٍ فَرَدَدْتهَا." رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: "لَا تَتَّخِذْ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا." وفيه حديث ابن عباس أن نفر من أصحاب النبي ﷺ كانوا في سفر، فوجدوا من طلبوا منهم الرقية، فقرأ عليه أحدهم الفاتحة بقطيعة من الشياه وترددوا في أخذها حتى سألوا عنها النبي ﷺ فقال: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ" ثُمَّ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمْ اقْتَسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا"، وَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ" وفي رواية: "إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ." وهذا إقرار منه على جواز أخذ الأجر على القرآن والرقية: "وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ أَهْلُهُ: إنَّا قَدْ حُدِّثْنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ، فَهَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُدَاوِيهِ؟ قَالَ: فَرَقَيْتَهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَبَرَأَ، فَأَعْطَوْنِي مِائَتَيْ شَاةٍ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "خُذْهَا فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ." رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ زَوَّجَ امْرَأَةً رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا سُورًا مِنْ الْقُرْآنِ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الرُّخْصَةِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَمَلَ حَدِيثَ أُبَيٍّ وَعُبَادَةُ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا وَحَمَلَ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ." وهذا من قول المؤلف.
بعض الفوائد من الدرس:
- المكر هو إيصال الأذى بطريقة خفية، وهو على نوعين: مكر محرم ومكر جائز إذا كان هذا في نصرة الحق، وفيه انتصار من الكفار؛ هذا مكر جائز. والمكر ينسب إلى الله – جل وعلا – وهو من النوع المباح، وأما المكر المحرم لا ينسب إلى الله ولا إلى الرسول ﷺ وهو إيصال الأذى إلى من لا يستحقه بطريقة خفية لا يشعر بها، هذا مكر محرم؛ إنما يجوز المكر إذا كان يصل إلى الحق وينصر الحق، وهذا في قوله تعالى ﴿ويمكرون ويمكر الله﴾ المكر ينسب إلى الله – جل وعلا – لأنه عدل وليس من المكر المحرم، وهو من باب المقابلة، قابل الله مكرهم بمكره – سبحانه وتعالى.