من قول المؤلف: "والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به"
إلى قول المؤلف: "فصل: وأما الثاني من الفتنة: فتنة الشهوات"
ملخص الدرس:
قال المؤلف:
"والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به.." يعني: الكافر ممتحن بالمؤمن والمؤمن ممتحن بالكافر كما قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون﴾ [الفرقان: 20] أي: أتمسكون بدينكم وإيمانكم و هل أنتم تصبرون؟ فتظهر الحكمة في ذلك؛ فإن الله يبتلي بعض عباده ببعض ليظهر الصابر من غيره "ولهذا سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال الحنفاء: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: 4-5]" لأنهم يؤذون المؤمنين فطلبوا من الله أن يكف الكفار عنهم.
"وقال أصحاب موسى عليه السلام: ﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنْةً لِلْقَوْمِ الظّالمِينَ﴾ [يونس: 85] قال مجاهد: المعنى، لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك. وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار، فيروا أنهم على حق وأنا على باطل. وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم." هذه الأقوال كلها متقاربة والآية شمالة لها، فطلبوا من الله ألا تبسط الارزاق على الكفار ولا تقتر علينا ألا يظن الكفار أنهم على الحق والمؤمنين على الباطل مع أن الله قد يزهد الدنيا عن عبده المؤمن؛ لكيلا يفتتن بالدنيا وفي نبينا في ذلك أبلغ المثال مع أنه كان أشرف الخلق. "﴿وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: 52] فقال الله تعالى ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرين﴾ [الأنعام: 53]" والله أعلم بمن هو مؤهل لفضله وإحسانه ومن هو ليس كذلك، وقد يبسط الدنيا للكفار وهم يستدرجون بالنعم؛ بعض الجهال من المسلمين يقولون: لماذا الكفار لهم الثروات وزهرة حياة الدنيا ونحن في الصحاري؛ فالكفار يستدرجون وأنتم في هذا لكيلا تنشغلوا بالدنيا عن الآخرة ولأن يخف حسابكم في اليوم الآخر – والمؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر، وعجب أمر المؤمن أمره كله خير..
"والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكل من النوعين فتنة للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصح وإلا فبسبيل من هلك، ولهذا قال النبي ﷺ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ" أو كما قال." فيه التحذير مما اليوم من الفتنة في وسائل الإعلام والجوالات من صور النساء، فالنساء هن أشد الفتنة على الرجال، وأوصى الله الرجال والنساء بغض البصر مما حرم الله؛ فمن لا يفتن بها ولا تجره لما هو أكبر منه وغض بصره نجا ومن مد بصره وتمتع بالنظر إلى المناظر الفاتنة؛ فإنه لا يخرج من فتنة إلا فيما أشد منها وهذا ابتلاء وامتحان من الله. "فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوي المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده،" النفوس ثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة التي تقع في ذنوب ثم تلوم نفسها وتتوب منها، والنفس المطمئنة وهي التي لا تلتفت إلى هذه الأمور وتبتعد عنها؛ فلينظر المسلم: من أي نفوس نفسه؟! هل من النفس المطمئنة فليحمد الله، أو هل هي من النفس اللوامة فعليه أن يتوب؛ والقرناء: أصحاب السوء؛ كما يقولون: الصاحب ساحب، أي: يسحبه إلى ما يريد. "مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به." أي الجنة؛ كل هذه أسباب للفتنة ومن وقع فيها هلك ومن تجنبها نجا.
"فصل: والفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. فتنة الشبهات أعظم من فتنة الشهوات كما قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعْوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِهِمْ﴾" نصيبهم من الدنيا وهذه فتنة الشهوات ﴿وخُضْتُم كَالّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69] هذه فتنة الشبهات. "وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما. ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُسُ﴾ [النجم: 23]" فعلى المسلم أن يستعذ من شر نفسه وأعماله كما ذكر في خطبة الحاجة.
"وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال." النفاق نوعان: نفاق أكبر وهو: أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ونفاق أصغر وهو: أن يظهر الخير ويبطن الشر؛ والنفاق الأصغر يجر إلى النفاق الأكبر.
[تحذير من البدعة والحث على اتباع السنة:]
والبدعة: ما أحدث في الدين ما ليس منه، قال رسول الله ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ فالبدعة شر، الدين كامل وهو القرآن والسنة لا يحتاج إلى زيادة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾؛ ولكن بعض الناس لا يرضيه هذا ويريد أن يحدث شيئاً من عنده، يجتهد فيه ويريد الخير بزعمه، حتى لو أراد الخير فالبدعة لا تجوز؛ الخير كله فيما شرعه الله لا فيما استحسنه هو؛ الخير كله في الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ولا تحدث شيئاً ن عندك تتقرب به إلى الله؛ فإن الله لا يقبله؛ قال ﷺ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد." أي: مردود عليه لا يبقله الله. وأصحاب البدعة قد أخرجتهم البدعة عن الإسلام؛ فالمسلم يتمسك بالكتاب والسنة، فيهما الخير والبركة والنجاة، ولا يحدث شيئاً يقول: هذا أمر مستحسن وفيه خير، لا. ما فيه خير، هذا شر! فالبدعة لا تجوز سواء أحدثها هو أو عمل ببدعة أحدثها غيره، كما في الحديث: "من أحدث في أمرنا" وقال ﷺ "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا."
"ولا ينُجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام. وما يثبته الله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها،" الدين توقيفي لا اصطلاحي أنزله الله كاملاً لا يحتاج أن تكمله أنت.. "ومقادير نُصبُ الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين،" فلا تجعل نفسك مشرعاً مع الرسول ﷺ "بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزنه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله." قال ﷺ "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي." وقال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك." و "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي." وهو أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – فسنة الخلفاء الرشدين من سنة الرسول ﷺ، ما أحدث في الدين فهو رد وإن قاله من قاله؛ ولما كان أبو بكر وعمر ينهيان عن التمتع بين العمرة والحج من أجل ألا يحجر البيت كما ظنوا، ماذا قال ابن عباس؟ قال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله ﷺ وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!" ما لهما كلام على رسول الله ﷺ وما قصدا إلا تعظيم البيت..
"فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه." نعم، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ وكم تراكم من البدعة؟ ولها دعاة وعلماء وحجرت سنة رسول الله ﷺ عند أصحاب البدعة؟! فهم راحوا مع البدع وتركوا سنة رسول الله ﷺ. "وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة."
بعض الفوائد من الدرس:
- الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وفتنة الشهوات.
- التحذير من البدعة والحث على اتباع السنة.