لذين يتنقصون العلماء، ويحطون من قدرهم، ويزهدون الناس فيهم، ويصفونهم بالأوصاف الذميمة، يصفونهم بالعمالة، يصفونهم بالمداهنة مع السلاطين بزعمهم؛ يريدون أن يحولوا بين العلماء وبين الناس حتى تسنح لهم الفرصة بنشر الأفكار الخبيثة، ولا يقبل من العلماء بيان لهذه الأفكار وهذه الشبهات، هذا ما يريده أعداء الله ورسوله، واسمعوا إلى ما جاء في مثل هؤلاء. كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من غزوة تبوك نزل في منزل للراحة، نزل المسلمون معه، اجتمع نفر من جملة العسكر الذين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل دين وأهل إيمان، جلسوا يتحدثون فقال رجل منهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكذب ألسنا، وأرغب بطونا، وأجبن عند اللقاء". يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والبقية سكتوا ولم ينكروا عليه، إلا شابا أنكر عليه، وقال له كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له عوف بن مالك رضي الله عنه، فذهب الشاب يخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقه الوحي، ونزل على الرسول صلى الله عليه وسلم خبرهم، وقال الله جل وعلا: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). انظروا كانوا مؤمنين في الأصل، لكنهم كفروا بعد إيمانهم، ليسوا منافقين من الأول، هؤلاء من المؤمنين، ولما قالوا هذه المقالة، من المؤمنين ومع رسول الله ومع الغزو، لما قالوا هذه المقالة أنزل الله فيهم هذه الآية، جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا يا رسول الله: "إنما هو حديث الركب نقطع به الطريق"، وكان كبيرهم ممسكا بناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبلها، يقول يا رسول الله: "إنما كنا نخوض ونلعب، حديث الركب نقطع به عنا الطريق"، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه، بل يقرأ عليه هذه الآية: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). والرسول متجه وركب راحلته حتى إن الحجارة لتنكب أقدام هذا الرجل الذي يعتذر والرسول لا يلتفت إليه؛ لأن الله أمره أن يقول لهم: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). وهذه الآية تتناول كل من استهزأ بالعلماء، واستهزأ بالعلم الشرعي، تتناوله الآية، فهو واقع في هذا الوعيد الشديد، ومتصف بهذا الوصف القبيح، الذي يستهزئ بالرسول، يستهزئ بالقرآن، يستهزئ بالعلم، يستهزئ بالعلماء واقع في هذا الخطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هو ما يتنقص العلماء أو يسب العلماء لأجل أشخاصهم، وإنما يسبهم من أجل العلم الذي يحملونه، يسبهم من أجل وصفهم لا من أجل أشخاصهم، فلذلك ناله هذا الحكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيجب توقير العلماء، واحترام العلماء، والتلقي عنهم، تلقي العلم عنهم؛ لأن هذا العلم أمانة يجب على العالم أن يؤديها وأن ينشرها، وأن يدرس هذا العلم ويبينه للناس، يحمله لمن بعده؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) لا بد له من حملة، لابد له من حملة، ولا بد من محمول عنهم وهم العلماء، لا يؤخذ العلم من الكتب، إنما يؤخذ عن أهل العلم، يقول بعض السلف: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". أي: عمن تأخذون علمكم. هو مثل النسب، هذا العلم مثل النسب، لا بد أن يكون هذا له نسب، هذا الذي يدعي العلم عمن أخذه؟ مثل ما تقول: فلان من هو أبوه؟ من هو جده؟ تقول هذا من هو شيخه؟ ممن تعلم؟ ممن تلقى العلم؟ هكذا يكون العلم خلفا بعد سلف. ويجب أن يحترم العلماء، وأن يعرف قدرهم، وأن يتلقى عنهم العلم، قال جل وعلا: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). فيجب الرجوع إلى أهل العلم في التعلم، في الفتوى، في السؤال، في القضاء، في كل شؤون المسلمين، هم الذين يحملون حل هذه الأمور وهذه المشاكل فيرجع إليهم، فإذا شككنا فيهم؛ زهدنا الناس في طلب العلم، وزهدناهم في أهل العلم، وحينئذ من الذي يتولاهم؟ يتولاهم أهل الضلال، يوجهونهم على رغبتهم؛ ليكونوا سلاحا يطعنون به الإسلام والمسلمين. فأهل العلم الله شرفهم، ومدحهم، الرسول صلى الله عليه وسلم شرفهم ومدحهم، يأتي من ينقصهم، ويزهد فيهم، ويصفهم بالأوصاف الذميمة، هذا مخالف لله ولرسوله، محادٌّ لله ولرسوله، غاشٌّ للمسلمين، فيجب التنبه لمثل هذه الأمور.