الابتلاء والامتحان لبني آدم


 

الابتلاء والامتحان لبني آدم

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي له ما في السماوات ومافي الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد ألا إله إلا الله (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) وأشهد أن محمد عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير وصلى الله على آله وأصحابه أهل الجد والتشمير وسلم تسليماً كثير أما بعد

أيها الناس اتقوا الله تعالى،

قال الله سبحانه وتعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، بين سبحانه وتعالى الحكمة من خلق الموت والحياة وأنها الابتلاء والامتحان لبني آدم أيهم يحسن العمل لآخرته والله جل وعلا لم يقل أيكم أكثر عملا وإنما قال: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، فالعبرة بالعمل الحسن لا بالعمل الكثير الذي ليس بحسن، ولا يكون العمل حسن إلا إذا توفر فيه شرطان الشرط الأول الإخلاص لله جل وعلا فيه فلا يكون فيه شرك ولا يكون فيه رياء ولا سمعة ولا قصد لوجه الله ولا قصد لطمع الدنيا والشرط الثاني أن يكون صوابًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقا لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيه بدعة ومحدثات فإن العمل الأول وهو الذي خالطه شرك مردود على صاحبه لا يقبل وهو حابط وباطل وأما الذي فقد الشرط الثاني وهو المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أيضا باطل ومردود على صاحبه قال صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، وفي رواية: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، أي مردود على صاحبه سواء هو الذي أحدث البدعة أو أحدثها غيره وعمل بها تقليداً له فإن البدع مردودة كلها مهما كلف صاحبها نفسه فيها لأن الله أمرنا بالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، ولم يأمرنا بالاقتداء بغيره ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والله سبحانه وتعالى جعل لنا دوراً ثلاثا نمر بها الدار الأولى الدار الدنيا وهي دار العمل وهي يختلط فيها الخير والشر والمؤمن والكافر والمنافق يختلطون في هذه الدنيا تختلط الأعمال وتختلط الأشخاص في هذه الدنيا والدار الثانية دار القبور دار البرزخ وهي محطة انتظار بين الدنيا والآخرة وفي القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار والعياذ بالله على حسب ما مات عليه من إيمان أو نفاق أو كفر وشرك فإنه يأتيه في قبره من جزاء الآخرة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فيأتيه من الجنة إن كان مؤمناً ويأتيه من النار إن كان منافقًا أو كافر أو مشرك والدار الثالثة دار الآخرة وهي دار القرار التي لا رحيل منها دار القرار أي الاستقرار الذي لا رحيل منها وهي دار الجزاء وينقسم الناس فيها إلى فريقين لا ثالث لهما فريق في الجنة وفريق في السعير فالمؤمنون في الجنة والكفار والمشركون والمنافقون في النار والعياذ بالله ولا رحيل منها ولا موت ولا انتقال هذه هي الدار الآخرة وكلها نمر بها لكن أين من يعتبر وأين من يتعظ قال الله سبحانه وتعالى لنا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ* سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، الأمر واضح ليس فيه لبس وما ترك الله لنا معذرة أو حجة بل أقام لنا البراهين والدلائل ووضح لنا كل شيء لا يخفى علينا شيء مما كان أو يكون اعلموا أيها الناس تيقنوا أنما الحياة الدنيا لعب، لعب في الأبدان ولهو في القلوب وزينة في المظاهر لعب في الأبدان بعض الناس مهنته لعب ويسمى لاعبًا طول حياته وهو من اللاعبين ويفتخر بذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله كأنه خلق للعب واللعب إذا كان في حدود وفيه فائدة للبدن ولا يترتب عليه محاذير فإنه مباح لكن بحدود ولا يسمى الإنسان لاعبًا أو تكون مهنته اللعب دائما وأبد هذا شأن الكفار أما المؤمن فإنه يعد لآخرته ويسعى لآخرته لم يخلق هذه الدنيا ولهو في القلوب لاهية (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)، يكون القلب منصرفاً عن الآخرة ومشغولا بالدنيا ومشغولا بما لا فائدة له منه وزينة في المظاهر من الملابس والمراكب والمساكن زينة الزينة لها حدود زينة مباحة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، والله أمرنا بالتزين والتجمل في لباسنا وفي هيئاتنا ولكن ذلك لا يشغلنا عن زينة القلب يعني نزين الظواهر ولا نزين البواطن نزين القلوب لطاعة الله ونزين الأبدان بما أباح الله سبحانه وتعالى وتفاخر بينكم تفاخر بين الناس في الأنساب وفي الأحساب وفي الوظائف كل واحد يفتخر على الآخر والفخر إنما هو بطاعة الله عز وجل العمل الصالح هذا هو الفخر وأما الفخر بغير ذلك فإنه فخر باطل خصوصا الفخر الذي يحمل على احتقار الناس وازدراء الناس الفخر الذي يحمل على التكبر والأشر والبطر تفاخر بينكم (وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)، كل واحد يقول أنا أكثر من فلان ثروة أنا أكثر من فلان مالاً ويفني ليله ونهاره بطلب المال ويكدسه ويرصده في البنوك ويقول أنا أكثر من فلان مالا (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)، يفتخر على صاحبه قال له: (إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً)، فإن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الأموال وإنما ينظر إلى الأعمال والقلوب إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فتكاثر بالأموال (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ)، (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، قال الله جل وعلا: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)، فالله لا ينظر إلى الأموال والأولاد وإنما ينظر إلى القلوب وإلى الأعمال فعلى المسلم أن ينشغل بذلك ثم ضرب لهذه الدنيا مثلا فقال: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) يعني مطر (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) أعجب الكفار أي الزراع الذين يزرعون إذا جاد الزرع أعجبوا به ويراد به هنا يراد بالزراع هنا الكفار هم الذين يعجبون بالدنيا فهذا من باب ضرب المثل الكفار يعجبون بالدنيا وينسون الآخرة (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)، فعلى المسلم أن يحذر من ذلك (وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ)، هذه عاقبة الدنيا (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)، هكذا الإنسان يكون شاباً نظراً قوياً ثم يكون يافعًا متوسطاً ويأخذ بالنقص ثم يكون شيخا هرم إذا أطال الله في عمره ثم يموت وينتهي أجله ومقامه في هذه الدنيا (َتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)، هذا مثال لبني آدم ضربه الله سبحانه وتعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، فعلى كل حال علينا جميعا أن نتبصر في أمورنا وأن نتبصر في دنيانا وآخرتنا وأن نتمسك بديننا وأن نحسن العمل لأنه ليس لنا من هذه الدنيا إلا العمل مهما كثرت الأموال والأولاد فإنه لا يخرج من هذه الدنيا إلى بالكفن بخرقة قيمتها بضعة دراهم ولو كانت عنده المليارات والملايين فإنها لغيره إلا ما قدم لنفسه منها لآخرته أو انتفع به في دنياه فيما أباح الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيانِ والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنََّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنَّه، وأشهد أنََّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا   أما بعد

أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ذم الدنيا لا يرجع إلى ذاتها فهي خلقها الله جل وعلا لمنافع الناس فهي خير لمن استعملها لطاعة الله وهي شر على من استعملها في سخط الله عز وجل فالذي يذم في هذه الدنيا إنما هي أعمال الإنسان هذا هو الذي يذم أعمال الإنسان في هذه الدنيا وتصرفه فيها الذم يرجع إلى هذا ولا يرجع إلى الدنيا فلا نظن الذم يرجع إلى الدنيا ونرخص الدنيا ونتركها لا لكن الذم يرجع إلى تصرفاتنا وأعمالنا فالدنيا نعم العون على طاعة الله لمن استغلها في ذلك فهي لا تذم لذاتها لأنها منافع وأرزاق خلقها الله جل وعلا لمصالحنا ومنافعنا ونستعين بها على طاعته سبحانه وتعالى ولنعتبر بها نعتبر بسرعة زوالها ونعتبر بتقلباتها وتغيراتها نعتبر بهذا فإذا لم نقم بهذا فالذم يرجع إلى أعمالنا وتصرفاتنا.

فاتقوا الله عباد الله، وعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكُلَ بدعةٍ ضلالة.

وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةَ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن تحول عافيتك، ومن جميع سخطك،  اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا، وجعلهم هداة مهددين غير ضالين ولا مضلين، اللَّهُمَّ أصلح بطانتهم، وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، اللَّهُمَّ أجمع كلمة المسلمين على الدين، وكفهم شر أعدائهم يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أكفنا شر أعدائنا من الكفار والمشركين والمنافقين، اللَّهُمَّ ولي علينا خيارنا، وكفنا شر شرارنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا ما لا يخافك ولا يرحمنا، وجعل ولينا فيمن خافك وتقاك وتبع رضاك يا رب العالمين، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). 

عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.