في صحيفة الوطن الصفحة 24 الصادرة يوم الأحد 13/6/1427هـ قرأت مقالا للأخ صالح عبدالله العريني من البدائع بعنوان (تعليقا على الشيخ الفوزان) جاء فيه مقاطع لا يجوز السكوت عنها دون بيان وتوضيح ولا سيما أنه طلب مني ذلك حيث قال: فليت فضيلته (يعنيني) أوضح لنا أكثر ليزيل اللبس عنا، وتحقيقا لطلبه أقول:
أولا: إنني أقصد بكلامي الرد على قوم يعيبون مناهجنا الدراسية باشتمالها على بيان أحكام الجهاد ويريدون إخلاءها من ذكره لكيلا نغضب العدو، ولا شك أنه يترتب على هذا الاقتراح لو تحقق ولن يتحقق بإذن الله أن نفقد بابا من أبواب عقيدتنا التي هي أساس ديننا ثم لو استجبنا لهذا الاقتراح الظالم فهل يكف الكفار عن قتالنا وغزونا في عقر دارنا - كما هو الواقع الآن من غزوهم الكثير من البلاد الإسلامية وتدميرها - وهذا مصداق قول الله تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا) وهل كفتهم عن بلادنا المعاهدات الدولية.
ثانيا: جهاد الطلب ثابت بالكتاب والسنة وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه وإجماع المسلمين، وأما تنفيذه فهو يخضع لظروف وشروط معلومة تتضمنها كتب الفقه والحديث والتفسير وهي مقررة في مناهجنا الدراسية أهمها:
1- أن تتوفر في المسلمين القدرة الكافية على تنفيذه فإن لم تتوفر فإنه يحرم لما يلزم عليه حينئذ من إبادة المسلمين على أيدي الكفار. وهذه الحالة يمثلها العهد المكي حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة مأمورين بالصبر وكف الأيدي وكان القتال محرما في حقهم حينذاك لما يجره عليهم من الضرر.
2- ألا يكون بيننا وبين الكفار عهد، فإن كان بيننا وبينهم عهد حرم قتالهم واحترمت أموالهم ودماؤهم، وهذا هو ما أشكل الآن على بعض الكتاب حيث قالوا إن الجهاد يتنافى مع الواقع ودخول المسلمين في المعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة وخلطوا بين دراسة أحكامه وبين القيام بتنفيذه وطالبوا بإلغائه من المقررات الدراسية في حين أن بين الأمرين فرقاً واضحاً. ولو لم ندرسه لالتبس الأمر على الجهال خصوصا الشباب وسموا الاعتداء على المعاهدين والمستأمنين جهادا وأوصوا المسلمين بالقيام به، ولو لم يكن بهم استطاعة له ولم يتصوروا ما ينتج عن ذلك من سوء العواقب على المسلمين لأنهم لم يدرسوا فقه الجهاد وضوابطه وشروطه، وما يكون منه فرض عين وما يكون منه فرض كفاية، ومن هو العدو الذي يقاتل والعدو الذي لا يقاتل، ومن هو الذي يصلح للمشاركة في الجهاد والذي لا يصلح وما هي سياسة تنفيذه.
3- لا بد أن يكون الجهاد بأمر ولي أمر المسلمين، لأن الأمر به وتنظيمه من صلاحيات ولي الأمر وبقيادته أو قيادة من ينيبه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يفعل ليكون الجهاد تحت راية مسلمة، وليس هو فوضى وانقسامات وانتماءات واختلافات ينتج عنها الهزيمة والفشل كما قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
ثالثا: الجهاد في سبيل الله موجود في شرائع الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام وليس هو خاصاً بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا موسى - عليه السلام - خرج ببني إسرائيل ليخلص الأرض المقدسة من أيدي الجبابرة الكفار، ومن بعد موسى طلب الملأ من قومه (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وانتهى الأمر بلقائهم بعدوهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) وهذا نبي الله سليمان عليه السلام قال في حق قوم بلقيس الذين كانوا يعبدون الشمس من دون الله: (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ)، فالجهاد في سبيل الله شريعة قديمة، وكذلك ما كان بين بني إسرائيل وبين الفرس المجوس من القتال والمداولات.
رابعا: ليس الغرض من الجهاد في سبيل الله سفك الدماء بغير حق والاستيلاء على الأموال والبلاد لأن المسلمين يصيبهم فيه أكثر مما يصيب الكفار من الألم وبذل الأنفس والأموال كما قال تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) ولكن الغرض من الجهاد في الإسلام إعلاء كلمة الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة الله. كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا - أو يقولوا - لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى ، ولذلك تجب دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم، فقاتلهم لأجل مصلحتهم ولذلك جاء في الحديث عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، أي يؤسرون في القتال ثم يسلمون فيخلى سبيلهم ويدخلون الجنة، ولو ماتوا على الكفر صاروا من أهل النار.
خامسا: إنما يشرع القتال في حق من ينشر الكفر ويدعو إليه كما قال تعالى: (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ)، أو في حق من قاتل المسلمين وصد عن سبيل الله فمن لم يقاتل ولم يدع إلى الكفر فإنه لا يقتل ولذلك لا تقتل المرأة ولا الصغير ولا الهرم ولا العابد في صومعته لأن هؤلاء لا يقاتلون المسلمين ولأن هؤلاء كفرهم وشرهم قاصر عليهم لا يتعدى إلى غيرهم فلا يتعرض لهم وما اختاروا لأنفسهم.
سادسا: ليس الغرض من الجهاد في سبيل الله إجبار الناس على الدخول في الإسلام كما يتصوره البعض، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وقال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فالدخول في الإسلام لا بد أن يكون عن اختيار واقتناع به، ولكن الغرض منه أن يأخذ الإسلام طريقه إلى البشرية لا يصد عنه من يريد الدخول فيه صاد ولا يقف في طريقه ليمنع الناس من الدخول فيه، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية قال ابن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا: (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حتى لا يفتن مسلم عن دينه. انتهى.
وقال تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
سادسا: جهاد المسلمين في سبيل الله أثمر خيرا كثيرا لأهل الأرض، حيث قمع الطغاة والمتجبرين والمستكبرين في الأرض بغير الحق، وخلص الضعفاء من قبضتهم وأنصفهم ونشر العدل والعلم وأزال الجهل والظلم وبسط العدل ونشر الحضارة الصحيحة في المشارق والمغارب ونشر الأمن بين الناس وما حضارة الأندلس وبغداد والشام وخراسان وما وراء النهر بخافية حيث نشأ منها العلماء الذين ملؤوا الدنيا علما وحكمة مما لا تزال آثاره باقية وشاهدة بفضل الجهاد في سبيل الله.
كما قال الشاعر:
بدا النور من بطحاء مكة ساطعا
وضاءت له من أرض يثرب دورها
ثأرنا بسيف الحق من كل باطل
فذل لنا جل الورى وحقيرها
وكل بلاد قد وطئنا صعيدها
غدون رياضا زاهيات زهوها
وأين هذا من حروب الكفار التي يشنونها على المسلمين بغيا وعدوانا فتخلف دماراً وعاراً كما هو المشاهد الآن في كل مكان من عدوانهم على الناس.
سابعا: قول الأخ صالح العريني: وما أتفق فيه مع شيخنا هو الجزء الخاص بجهاد الدفع، فهذا يعتبر ركنا سادسا من أركان الإسلام، وأما رأيه في جهاد الطلب فقد فوجئت بقوله: إنه واجب الآن لكنه مؤجل حتى يملك المسلمون القوة ، وأقول له: وما الذي نسخ وجوب جهاد الطلب عند القدرة عليه، وهو سنام الإسلام - وقوله لأن ما تعرفه هو أن غزو الآخرين أصبح محرما الآن ، وأقول له: لا أحد يحرم ويحلل إلا الله سبحانه، وأيضا هل الكفار الآن امتنعوا من غزو بلاد المسلمين واغتصابها بموجب العهود الدولية. وأين بلاد فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها. وقوله: وشرعت القوانين والنظم المدنية لحفظ الأمن وحماية الضعيف من القوي ، وأقول له: وأين هذا الذي تقول من حماية الفلسطينيين من اليهود، وحماية غيرهم من المسلمين في كثير من البلاد، وقوله: أما أن يكون امتلاك القوة العسكرية مبررا لشن الحرب فهذا منطق الظلم والطغيان ، وأقول له: نعم إذا كان شن الحرب لأجل نشر الظلم والكفر والطغيان كما هو الواقع في الحروب التي يشنها بعض الكفار فهو على ما وصفت، أما إن كان إعلان الجهاد لأجل نشر العلم والعدل ولتكون كلمة الله هي العليا فهو منطق العدل والإحسان، أحببت بهذه الكلمات الإجابة عن قول الأخ الكريم عني: فليت فضيلته يوضح لنا أكثر، والله المستعان.
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
- Log in to post comments