شرح كتاب التوحيد 10-06-1437هـ



المُقدَّم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَائْدُ الغَّرُ المحَجَلِيْن نَبِيِّنَا مُحَمَّدُ وَعَلَىْ آَلِه وَصَحَبِه أَجْمَعِيْن.
مرحبًا بكم أيها الأخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد هذه الدروس للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.
 ضيف هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء؛ أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم .
المتن:
قال المؤلف -رَحِمْهُ اللهُ تَعَالَى-:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ -تَبْارَكْ وَتَعَالَى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا).
الشيخ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلِّى اللهُ وَسَلْم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصَحْابِهِ أَجْمَعِينَ.
الشرح:
قال الشيخ -رحمه اللهُ تعالى- باب قولِ اللهِ تَعَالَى-:
 (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، سبب نزول الآية: هو أنه كان بين منافقٍ ويهوديٍ خصومة، فقال اليهودي: "نختصم إلى محمدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"؛ لعلمه أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يأخذ الرشوة، اليهودي علم هذا أن محمدًا لا يقبل الرشوة، ولهذا طلب التحاكم عليه، وأمَّا المنافق الذي يزعُم أنه مؤمن ويزعُم أنه من المسلمين يقول: "نتحاكم إلى كعبٍ بن الأشرف" زعيم اليهود؛ لأنه يعلم أنه يأخذ الرشوة! فاللهُ -جَلَّ وَعَلا- فضحه في هذه الآية؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) ما هو بحقيقة، إنما هم (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن، (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب، (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ).
المتن:
(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
الشرح:
الطاغوت: من الطغيان؛ مشتق من الطغيان، والمراد به كما قال ابن القيم: "كل ما تجاوز العبد به حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ في غير طاعة الله، فهو طاغوت".
فالذي يتحاكم إلى غير اللهِ يتحاكم إلى الطاغوت، يعني إلى الباطل وإلى غير ما أنزل اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا) أمرهم الله ( أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أن يكفروا بالطاغوت، قال -جَلَّ وَعَلا-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا)، وهذا الرجل الذي يدعي أنه مؤمن لا يكفر بالطاغوت ويريد أن يتحاكم إليه، نسأل الله العافية.
 (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا)، يريدون في قلوبهم، فكيف إذا نفذوا؟ الأمر أشد، (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) يعني إلى غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وإلى غير ما أنزل الله.
(وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وقد فهموا ذلك؛ لكن ليس عندهم إيمان حقيقي؛ إنما هو مخادعةٌ لله ورسوله، يتظاهروا بمظهر المؤمن، وهم غير مؤمنين.
(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، فلا يجوز التحاكم إلى غير ما أنزل الله، ولا إلى غير من لا يحكم بالشريعة.
المتن:
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
الشرح:
أي نعم؛ هذا هو السبب، أن الشيطان -لعنه الله- يريد أن يضل هؤلاء المنافقين ضلالًا بعيدًا عن الإسلام، مع أنهم يدعون الإسلام والإيمان بالله والإيمان بمحمدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن ينكشف عوارهم عند أدنى حادثة من الحوادث.
المتن:
وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
الشرح:
كما ذكر اللهُ في أول سورة البقرة من صفات المنافقين؛ (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)، ثم ذكر ممارساتهم وتصرفاتهم الخاطئة، مع أن تصرفاتهم المخالفة والباطلة مع أنهم يدعون الإيمان! ومن ذلك: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، يريدون المسلمين؛ مع أنهم  يدعون الإسلام، لكن أظهر اللهُ مافي قلوبهم، وفضحهم.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ)، قال اللهُ -جَلَّ وَعَلا-: (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ) حصر اللهُ السفاهة فيهم؛ لا في المسلمين، إنما السفاهة في المنافقين، مع أنهم يدَّعون الكمال والعقلية، وما أشبه ذلك، (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ).
المتن:
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
الشرح:
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)، اللهُ -جَلَّ وَعَلا- أصلح الأرض بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبذلك بطل عبادة المشركين، وعبادة الأصنام وبطلت أمور الجاهلية كلها، بظهور الإسلام ولله الحمد، اللهُ أصلح الأرض بذلك، صلاح الأرض هو بتحكيم الشريعة، صلاحها بالإيمان بالله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا صلاح الأرض.
 وفساد الأرض تحكيم غير الشريعة؛ بأن تُحكم القوانين الوضعية، وأحكام الطاغوت وغير ذلك، من المعاصي والمخالفات كلها من الفساد في الأرض كما قال -سُبْحَانَهُ-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فهذا فساد -والعِيْاذ باللهِ- لا يُصلح الأرض إلَّا العمل بالكتاب والسُنَّة والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر وتحكيم الشريعة الإسلامية، هذا الذي يُصلح الأرض، ويعمُرُ الأرض.
المتن:
 قَالَ  تَعَالَى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).
الشرح:
 يَقَولُ تَعَالَى مستفهمًا استفهام إنكار؛ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ) الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير الشريعة، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) والجاهلية ما كان قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام أبطلوا حكم الجاهلية، وأمر بتحكيم الشريعة الإسلامية، وتحكيم الكتاب والسُنَّة، هناك ناس لا يريدون هذا، يريدون أن يبقوا على حكم الجاهلية، ويحبون حكم الجاهلية، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) مجرد إرادة هذا ولو لم يمارسه فإنه يدخلُ في عموم هذه الآية، أنه يبتغي حكم الجاهلية، ومن ابتغى حكم الجاهلية وأبغض حكم الإسلام، فإنه كافر.
المتن:
 وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكَونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ».
الشرح:   
«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ»، الإيمان الكامل، «حَتَّى يَكَونَ هَوَاهُ»، يعني رغبته، «تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ» تبعًا لما جاء به الرَسُول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المتن:
   قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
الشرح:
صححه الإمام النوويُّ وهو من كبار المُحدثين، وذكر أنه موجود في كتاب: "الحُجَّة عَلَى تَارِكْ المَحْجَة"، وهو كتابٌ مشهور.
المتن:
وقَالَ الشَّعْبِيُّ: «كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَرَجلٌ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: نَتَحَاكَمُ إِلَى الْيَهُودِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُم يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ، فَاتَّفَقَا أَنْ يَأْتِيَ كَاهِناً فِي جُهيْنَةَ فَيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ»، فَنَزَلَتْ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الْآيَةُ....
الشرح:
هذا هو سبب نزول الآية الكريمة أنه كان بين منافقٍ يدعي الإيمان والإسلام، وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى كعبٌ بن الأشرف أو إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذُون الرشوة! فانزل اللهُ هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ)، (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم يا محمد؛ أي قد رأيت هذا لمَّا أخبرك اللهُ بذلك، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)، هذا من باب الإنكار عليهم؛ (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، ثم بيَّن السبب وهو أن الشيطان يريدُ أن يُضلَّهم عن الحق، (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)، فاتفق رأيهم على أن يذهبوا إلى كاهن من الكهنة، والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب، وكان الكهنة يحكمون في أهل الجاهلية، يتخذهم أهل الجاهلية حُكامًا، يحكمون بينهم، تتنزلُ عليهم الشياطين وهم يأخذون عن الشياطين، ويتخذهم أهل الجاهلية حُكامًا بينهم، لزعمهم أنهم عندهم علمًا يعرفون به الحق من الباطل، أو يتعمَّدون هذا، اللهُ أعلمُ. لكن لمَّا كان هذا واقعًا في هؤلاء، اللهُ أنكر عليهم هذا؛ (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
المتن:    
وَقِيلَ: «نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا، فقَالَ أَحَدُهُمَا: نَتَرَافَعُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقَالَ الْآخَرُ: إِلَى كَعْبٍ بنِ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى عُمَرَ، فَذَكَرَ لَهُ أَحَدهُمَا الْقِصَّةَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يَرْضَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ».
الشرح:
هذه القصة عجيبة وعظيمة؛ بين يهودي وبين منافق خصومة، فقال اليهودي: "نتحاكم إلى محمدٍ، لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فذكر له القصة، فقال للذي قال: "نتحاكم إلى عمر"، قال له عمر:"َأكَذَلِكَ" ؟ يعني نترك حكم الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونذهب إلى عمر؟ قال: نعم؛ فأخذ السيف وضرب عُنقه وقتله لأنه كافر، وهذا من عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إنكارٌ للمنكر.
 وعمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هو ثاني الخلفاء الراشدين، وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فقتله.
المُقدِّم:
شكر الله لكم شيخ صالح الفوزان وبارك الله فيكم، وفي علمكم على ما شرحتم وأفضتم  في هذه الدروس الطيبة المباركة من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبدد الوهاب -رحمه الله-.