شرح كتاب التوحيد 25-05-1437هـ


المقدَّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَائْدُ الغَّرُ المحَجَلِيْن نَبِيِّنَا مُحَمَّدُ وَعَلَىْ آَلِه وَصَحَبِه أَجْمَعِيْن.
مرحبًا بكم أيها الأخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.
 ضيف هذا اللقاء هوفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء؛ أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح مع هذا الدرس.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم .
المتن
 بَابُ قَوْلِ اللَّهِ -تَبَارْكَ وَتَعَالَى-: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
الشيخ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، صَلَى اللهُ وَسَلْم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدْ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصَحْابِهِ أَجْمَعِينَ.
الشرح:
ما زلنا في كتاب الخوف من كتاب التوحيد، الذي هو حقُ اللهِ على العبيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، قد انتهينا إلى هذه الآية، وهى قوله -تَعَالَى- (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
هذه الآية نزلت بعد وقعة أُحد، لمَّا غزا المشركون رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة وحصل على المسلمين ما حصل من القرح الذي أصابهم، استشهد منهم عددٌ كثير، حتى النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصابه ما أصابه في هذه الوقعة، حيث هُشِّم المُظْفَرعلى رأسهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أصابه ما أصابه.
 لما أدبر المشركون، وعاد المسلمون إلى المدينة ومعهم الجرحى والمصابون. تَلَاوَم المشركون في ذهابهم قالوا: "لو رجعنا وقضينا عليهم نهايئًا". فأرسلوا إلى الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو بلغ الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الذي همَّ به المشركون. فأمر أصحابه الذين حضروا الغزوة أن يخرجوا؛ وفيهم الجُراح. فخرجوا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- بعدما أصابهم القرح. خرجوا مع رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزلوا في مكانٍ يُقال له "حمراء الأسد"، فبلغ المشركون خروجهم، وأنهم في إنتظار المشركين، فأصابهم الرعب، قالوا: "ما خرجوا إلَّا وفيهم قوة!"، فأصابهم الرعب فانهزموا! وعاد المسلمون سالمين -ولله الحمد- لم يُصبهم أي أذى، وحصلوا على الأجر العظيم من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. فقال اللهُ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) يعني ما تهدْد به المشركون المسلمين إنما هو كيدٌ من الشيطان.
 (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ): قيل معناه أن الشيطان يخوف الذين في قلوبهم مرض، يخوفهم بالمشركين.
 وأمَّا أهل الإيمان الصادق فإنما هذا أفادهم القوة والشجاعة، ولهذا قال: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، ما قال: "يخوفكم"، (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يعني الذين فيهم نفاق وضعف إيمان، هذا قول.
والقول الثاني للآية: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ): أي يخوفكم أيها المسلمون بأوليائه؛ أولياء الشيطان.
 (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أ أَوْلِيَاءَهُ) يخوفكم بأوليائه، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، هكذا المسلمين لم يخافوا من المشركين، وإنما يخافون من اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فخرجوا إلى هذا المكان ينتظرون المشركين فلمَّا بلغ المشركين خروجهم خافوا، فولوا الأدبار -ولله الحمد- وحصل المسلمون على الأجر العظيم في خروجهم.
 (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) يعني الله كافينا، ومن كان اللهُ كافيه لا يضرهُ أحد.
 (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
ثم بيَّن أن ذلك من كيد الشيطان: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فدلَّ ذلك على أن الخوف من العبادة، وهو نوعٌ من أنواع العبادة، الخوف الذي معه خضوع وذلٌ للمخوف، هذا نوعٌ من العبادة، امَّا الخوف ليس معه خضوعٌ للعدو فهو طبيعي لا يُضر.
المتن:
وَقَالَ اللهُ -تَبَارْكَ وَتَعَالَى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ).
الشرح:
وهذه الآية في أول سورة التوبة؛ لمَّا أن المشركين صدوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه عن عمرة الحديبية، فاللهُ -جَلَّ وَعَلَّا- قال: (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، يعني المشركين؛ (يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ)، لا يليق بالمشركين أن يتولوا المساجد، إنما يتولاها المؤمنون.
 (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ): يعمُرُها يعني بالطاعة والعبادةِ والصلاة، (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ): فالمشركون ليس لهم أنْ يعمُروا المساجد، ولا يُمَكَّنون مِنْ ذلك، لو أرادوا أنْ يعمُروها لم يُمَكَّنوا مِنْ ذلك، وإنما يعمُرُها أهلُ الإيمان، يعمُرُونها بالبناء؛ ويعمُرونها أيضًا بالطاعةِ والعبادة.
المتن:
وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ).
الشرح:
مِنَ الناسِ -نوعٌ مِنَ الناس مِنَ المنافقين- مَن يقول: (آمَنَّا بِاللَّهِ)، (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ): يعني أصابهُ ما يًصيبُ المسلمين مِنْ أذى الكفار فإنه ينهزم ويضعُف، (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ): يعني بسبب إيمانه؛ (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ): ففرَّ مِنْ أذى الناس إلى عذاب الله، كالمُستجير مِنَ الرمضاء بالنارِ والعياذ بالله.
المتن:
مِنَ الأحاديث الواردة في هذا الباب: حَدِيْث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَى النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ» رَوَاهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِه.
الشرح:
هذا الحديث فيه قاعدة عظيمة، وذلك أنه لمَّا طلَبَ معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لمَّا تولَّى على أمر المسلمين كَتَبَ إلى عَائِشةَ يطلبُ منها النصيحة، فكتبت له بهذا الحديث أنها سمِعَت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ التَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنْهُ وأرْضَى عنهُ النَّاسَ، ومَنْ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عليهِ وأَسْخَطَ عليهِ النَّاسَ».
تُوصِي معاويةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بمضمون هذا الحديث: ألّا يلتمس رِضا الناس بسَخَطِ اللهِ، وإنما يُقَدَّم رِضا الله على سَخَط الناس، هذا هو تحقيق التوحيد والعبادة.
فالمسلم لا يخاف إلا الله، ولا يخشى إلا الله، ولو هدَّدهُ مَنْ هدَّدهُ مِنَ المشركين ومِنْ اتباع الشيطان.
وكذلك المسلمون اليوم في هذا الزمان أمام تهديدات الكفار ووعيدهم وإيعادهم، فالمسلمون لا يهمهم ذلك، إذا تمسكوا بدينهم فإنَّ اللهَ معهم وناصِرُهم، ولا يضُرّهم مَنْ خَذَلهم ولا مَنْ خالَفهم؛ كما أخبر النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فعلى المسلمين الآن ألا يخافوا مِنْ تهديدات الكفار ما داموا على الحق، وما داموا على الصراط المستقيم، فإنًّ الله -جَلَّ وَعَلَّا- معهم، ومَنْ كان الله معه فلن يضُرَّهُ أحدٌ.
المتن:
وأيضًا مِنَ الأحاديث الوارِدة في هذا الباب: حديث أبي سعيدٍ:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ».
الشرح:
نعم؛ فالمسلم لا يُرضِي الناس بسَخَطِ الله أبدًا، هذا مِنْ ضعف اليقين بالله -عَزّ وَجَلّ-، ومِنْ ضعف الإيمان؛ أن يُرضِيَ الناس بما يُسخِط الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلا يتنازل عن شيءٍ مِنَ الدين لأجل إرضاء الناس، أو يُقَدِّم إرضاء الناس على إرضاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإنْ فعل هذا فإنَّ يقينه بالله ضعيفٌ أو لا يوجد.
فعلى المسلم أنْ يكنَ مع الله -سُبْحَانه-، ومَنْ كان مع اللهِ كان اللهُ معه، ومَنْ كان اللهُ معه فلا يضُرُّه أحدٌ.
المتن:
«وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ».
الشرح:
«وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ»: الرزقُ مِنَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الرَّزاق ذو القوةِ المتين، فهو الذي يُحمَد -سُبْحَانَهُ- على الرزق، وإنْ جرى الرزقُ على يد مخلوقٍ فإنك تحمَد هذا المخلوق على قَدْرِ ما تفَضَّلَ به، لكن الحمد المُطلق إنما هو لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولكن تحمَد المُحسِن إذا أحسن إليك بقَدرِ ما أسدى إليك، فهذا حمدٌ جزئي، أما الحمد المُطلق والكُلِّي فهو للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
المتن:
«وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ»..
الشرح:
ومِنْ ضعفِ اليقين: «وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ»، اللهُ -جَلَّ وَعَلَّا- هو الذي يُعطِي ويمنع -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم).
فعلى المُسلم أنْ يُعَلِّقَ قلبَهُ بالله؛ هذا مِنْ تحقيق التوحيد وقوة اليقين باللهِ -سُبْحَانَهُ تَعَالَى- وألا يُعَلِّقَ قلبهُ بالناس؛ إنْ أعطَوه رضي، وإنْ لم يُعطوه لم يرضَ، لا يُعَلِّق قلبه بالناس، وإذا أسدى إليه أحدٌ معروفًا فإنه يحمده على قدْرِ ما أسدى إليه فقط.
المتن:
«إِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ».
الشرح:
نعم؛ إذا قدَّر اللهُ شيئًا فلن يرُدَّهُ أحدٌ: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم)، فيُعَلِّق المسلم قلبَهُ بالله -عَزّ وَجَلّ-، وما يأتيه مِنَ الرزق إنما هو مِنَ اللهِ أصلاً وبداءةً، وإنْ جرى على يد مخلوقٍ فإنه يشكُر المخلوق على قَدرِهِ كما سبق، وإذا لم يحصُل له مطلوبُهُ فلا يذُمَّ الناس، وإنما يتيقن أنَّ اللهَ لم يُقَدِّرهُ له، فما دام اللهُ لم يُقَدِّرهُ له فلماذا يذُم المخلوق؟ فإنَّ هذا بقضاء الله وقدرِهِ، وهذا رُبَّما يكون مِنْ مصلحته أيضًا.