شرح كتاب التوحيد 18-05-1437هـ


بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ

المقدَّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَائْدُ الغَّرُ المحَجَلِيْن نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىْ آَلِه وَصَحَبِه أَجْمَعِيْن.
مرحبًا بكم أيها الأخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، ضيف هذا اللقاء هوفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء؛ أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم .
المتن:
 قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
 بَابُ قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى تَبْارك وَتَعَالَى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
الشيخ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.
الشرح:
 من أنواع العبادة التوكل وهو تفويض الأمور كلها إلى الله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-، التوكيل هو التفويض، والتوكل على الله هو الإعتماد على الله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- فيما يريده العبد.
(وَعَلَى اللَّهِ)  لا على غيره؛ وهذا يفيد الحصر (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) تقديم المعمول يفيد الحصر، لا تتوكلوا على غير اللهِ -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- لأن هذا التوكل من أنواع العبادة، والعبادات بأنواعها كلها لله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-.
أما التوكيل وهو أن تفوض إلى عبدٍ تصرفًا معينًا فهذا من المعاملات لا من العبادات، وهو جائز التوكيل، وباب الوكالة معروفٌ في كتب الفقه وغيرها.
المتن:
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
الشرح:
قال اللهُ –جلَّ وَعَلا-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)، هذا حصر، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)؛ خافت منه، خافت منه -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-.
 (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً)، إذا تُلى القرآن على المسلم فأنه يزيده إيمانًا بالله -عَزّ وًجَلّ- لأنه كلام اللهُ -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- وهو نور البصائر، وهو مبعثُ اليقين في قلب العبد، فالقرآن كلام الله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-.
 (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً)؛ وهذا فيه دليل على إن الإيمان يزيد، وليس إيمان الناس سواءً فمنهم من هو قوى الإيمان، ومنهم من هو متوسط الإيمان، ومنهم من هو ضعيف الإيمان، حتى قد يكون الإيمان قدر حبة خردل، وزن حبة خردل في قلب الإنسان يضعُف جدًا. وهذا كما في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ». وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». َأَدْنَاهَا: أدنى شعب الإيمان: «وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»، «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ». فدلَّ على أن الإيمان ذو شُعب وذو خصال، فمن استكمل هذه الخصال تكامل إيمانه، ومن فقد شيئًا منها ضَعُف إيمانه بحسب ذلك. فالإيمان يزيد وينقص؛ وهذا مذهب أهل السُنَّة والجماعة خلافًا للمُرجئة الذين يقولون الإيمان شيءٌ واحدٌ لا يزيد ولا ينقص؛ فهذا قاعدة عظيمة.
المتن:
وقَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
الشرح:
 (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) هذا خطاب للرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ والله -جلَّ وَعلا- إذا ناداه لا يقول له يا محمد، كما يقول للأنبياء يا موسى، يا نوح وإنما خصَّ محمدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه لا يناديه باسمه وإنما يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، ولا يقول يا محمد إنما يأتي اسم محمد في باب الإخبار عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)، هذا من باب الإخبار لا من باب النداء، فهذا تشريفٌ للرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
المتن:
 وقال -تَعَالَى- (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه).
الشرح:
 (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) لا على غيره، (فَهُوَ حَسْبُه): يعني كافِيهِ، وفي الآيةِ التي قبلَها: (حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ): أي ومَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤمنين فاللهُ حسبُهُم -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- فهو حَسْبُ الجميع.
المتن:
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:- (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قَالَها إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا لَهُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعَوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ اْلوَكِيلُ) رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيُّ.
الشرح:
هذه الكلمةُ العظيمة: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قالها الخَلِيلان: إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- لمَّا أُلقِيَ في النار، وذلك أنَّهُ لمَّا عابَ آلهتهم وحَذَّرَهم مِنَ الشركِ بالله -عزّ وَجَلّ- قالوا: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ)، فأوقدوا نارًا عظيمةً لا يقدِرُ أحدٌ أنْ يقرَبَ منها، فأخذوا إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- ووضعوه في المِنجنيق -آلة القذف-؛ آلة كبيرة قاذفة، فلمَّا وضعوه وقذفوه في النارِ قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): أي هو كافيني -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-، قال اللهُ -جَلَّ وَعَلاَ-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
وقال هذه الكلمة الخليلُ الثاني مُحمدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما قال لهُ المشركون يتهددونهُ بعد أُحُدٍ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ): يعني سيرجعون إليكم، فأمرَ أصحابَهُ فخرجوا وفيهم الجِراح، فلمَّا خرجوا ذُعِرَ المُشركون وقالوا: ما خرجوا إلا وفيهم قوّة، فهربوا مُدبِرين إلى مكة وانهزموا، لعَزم الرسول-صلى اللهُ عليه وسلم- وأصحابِهِ، وقوة إيمانهم، قالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (ِإنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ): يريدون أنْ يغزُوكم ويُقاتِلونكم، (فَاخْشَوْهُم)، ماذا أجابوا؟ (قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) عندنا ومعنا ربُّنا -سُبحانهُ وتعالى-، فخرجوا وفيهم الجِراح، فاللهُ حماهُم ووَقاهُم، (َانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
المتن:
في هذا الباب عُدة مسائلُ:
المسألةُ الأولى: أنَّ التَوَكُّل مِنَ الفَرائِضِ.
الشرح:
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا): هذا أمرٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلاَ-، والأمرُ مِنَ اللهِ يُفيدُ الوجوب.
المتن:
المسألةُ الثانية:
أنَّهُ أيضًا التوَكُّل مِنْ شروط الإيمان.
الشرح:
(إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): هذا شرطٌ، يعني: إنْ كُنتم صادقين في إيمانِكم فتوكلوا على الله، فدلَّ على أنَّ الذي لا يتوكل على اللهِ ليس بمؤمنٍ.

المتن:
المسألةُ الأخرى في هذا الباب: في أنَّ التوكُّل وعِظَم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- ومحمدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وخُصَّت في الشدائد.
الشرح:
نعم، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) خُصَّت بالخلِيلَينِ: إبراهيم ومُحمد -عَلَيْهِما الصَّلَاةِ وَالسَّلامُ-، وقالوها في وقت الشدائد، فهي كلمةٌ تُقال في الشدائد، ويُفَرِّجُ اللهُ عمَّن قالها إذا قالها باعتقادٍ وإيمانٍ وصِدقٍ.
السؤال:
الأخذ بالأسباب هل يُنافِي التَوَكُّل؟
الجواب:
لا، نحن مأمورون بالتوكُّل ومأمورون باتِّخاذ الأسباب، والنبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أعظم الناسِ توَكُّلاً على الله، ومع هذا كان يتَّخِذُ الأسباب، كان يلبس المِغفَر على رأسِهِ ليتوَقَّى به مِنَ السلاح، وكان يلبس الدِّرع، دِرع الحديدعلى جسمه توَقِّيًا للسلاح، هذا مِنَ اتِّخاذ الأسباب.
اتِّخاذ الأسبابِ لا يُنافي التوكُّل، ونحن مأمورون بهذا، لو كانا يتنافيان ما أمرنا اللهُ بهما، فقال -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).
السؤال:
لماذا ضَعُفَ الإيمان عند بعض الناس في وقتنا الحاضر؟
الجواب:
نعم؛ الناس يكونُ فيهم ضعيف الإيمان بلا شكٍ، لأنه لم يتمكّن الإيمان مِنْ قلبِهِ، وأيضًا عنده خوفٌ، فيضعُف توكله على الله بسبب الخوف الذي يُصيبه والهَلع الذي يُصيبه، ولا ينهزم المؤمن أمام الشدائد ويضعُف أمامها إلَّا لضعف إيمانِهِ.
السؤال: نريد أن نختم هذا البابُ العظيمٌ، باب التوكل؛ هل اضافة في ذلك شيء؟
الجواب: هذا الباب بابٌ عظيم؛ وهو باب التوكل على اللهِ -سُبحانَهُ- ولا سِيَّما عند الشدائد، وكما سَبقَ: التوَكُّل على اللهِ مع اتِّخاذ الأسباب الواقية، فنجمع بين الأمرين: نتوكل على اللهِ ونعتمد علي الله، وأيضًا نتخذ الأسباب الواقية والنافعة، ولا تنافيَ بينهما، وهذا مِنَ الإيمان.
فالّذي يقول أنا متوكِّلٌ على اللهِ ويُهمِل الأسباب؛ هذا مُخطئٌ جدًا، وعنده ضعفُ إيمانٍ وضعفُ يقينٍ، والذي يعتمد على الأسبابِ ولا يتوكل على الله هذا أيضًا على النقيض، وهو أيضًا ناقص الإيمان، ومُختَلّ العقيدة.