شرح كتاب التوحيد 20-04-1437هـ


مقدمة الحلقة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَائْدُ الغَّرُ المحَجَلِيْن نَبِيِّنَا مُحَمَّدُ وَعَلَىْ آَلِه وَصَحَبِه أَجْمَعِيْن.
مرحبًا بكم أيها الأخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد؛ للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، ضيف هذا اللقاء هوفضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء،أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم .
المتن: قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
بَابُ: قولِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)
الشيخ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَلَاةُ وَالسَلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وأصَحْابِهِ أَجْمَعِينَ.
الشرح: من أنواع الشرك؛ الشرك في المحبة وهو الذي عقد له المؤلف هذا الباب، لأن المحبة نوعٌ من أنواع العبادة، فإن من أحب مع الله أحدَا فإن هذا شركٌ في المحبة، والواجب أن يفرد الله -جَلَّ وَعَلا- بالمحبة التي هى محبة العبودية، وهى التي معها خضوعٌ وانقيادٌ للمحبوب، هذه محبة العبادة، أمَّا المحبة الطبيعية فهذه لا يؤاخذ عليها، مثل أن يحُب الإنسان زوجته وأولاده، يحب المال، هذه محبة طبيعية، ليست محبة عبادة، فالمراد في هذا الباب الشرك في المحبة، والتي هى محبة العبودية التي معها ذلٌ وخضوعٌ وانقيادٌ للمحبوب، وهذا لا يكون إلا لله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-.
(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً)، والأنداد: جمع ند وهو: الشبيه والنظير والمثيل، (يُحِبُّونَهُمْ)، أي يحبون هذه الأنداد كحب الله، يساون بينها وبين الله في المحبة، وهذا شركٌ أكبر. والعياذ بالله؛ (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)، المشركون يحبون معبوداتهم كما يحبون الله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- وهذا شركٌ أكبر.
(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)، ثم بيَّن موقف المؤمنين من هذه المسألة، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)، من حب المشركين لله، فالمشركون يحبون اللهَ لكنهم يحبون معه غيره، فيشركون في المحبة، وأما المؤمنون يحبون اللهَ محبةً خالصة، ولا يحبون معه أحد محبة العبودية.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)، أي من المشركين الذين يحبون اللهَ ويُحبون معه غيره، لأن المؤمنون يُحبون اللهَ محبةً خالصةً والمشركون يحبون اللهَ محبةً مشتركة بينه وبين غيره!
فمن أفرد الله بالمحبة والعبودية فهو الموحد، ومن أحب الله وأحب معه غيره محبة عبودية فهو المشرك.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) أي من حب المشركين لله، وقيل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) من حب المشركين لأصنامهم، لأن المشركين يُحبون أصنامهم حُبًا عظيما، ولهذا عبدوها من دون اللهَ -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-، فالذين على هذا الوجه أشد حُبًا للهِ من حب المشركين لأصنامهم.
المتن: وَقَالَ -تَعَالَى-: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ)؛ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
الشرح: هذه المحبة مع الله -جَلَّ وَعَلا-؛ هذه المحابَّ الثمانية المذكورة يُحبها الإنسان محبةً طبيعية، (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، هذه نزلت في الذين تركوا الهجرة شُحًا بأوطانهم وأموالهم، لأن المهاجرين الصادقين هاجروا  إلى اللهِ ورسولهِ وتركوا أموالهم وتركوا أوطانهم ومساكنهم، هاجروا إلى المدينة، لمناصرة النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. هؤلاء الصحابة المهاجرون آثروا محبة الله على محبة هذه الأصناف الثمانية، فتركوها وهاجروا إلى الله -سُبحانَهُ وَتَعَالَى- وهذا دليلٌ على صدق إيمانهم.
 وهُناك مَنْ آثَروا حُبّ هذه الأشياء، وبَقُوا في مكةَ وتركوا الهِجْرة، وهؤلاء هم الّذين نَزَلَتْ فيهم هذه الآية: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) أي: انتظِروا ما يحِلّ بكم مِنَ العُقوبة، وهذا تهديدٌ مِنَ اللهِ لهم، (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارِجين عن طاعة الله، لأن الفِسْق في اللغة هو الخروج، وتَرْك طاعة الله فيه خروجٌ عن طاعة الله-عزَّ وجَلّ-، (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارِجين عن طاعة الله؛ الّذين آثَروا هذه المحابّ الثمانية على الهِجرةِ إلى اللهِ ورسولِهِ.
المتن: عن أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم- قالَ: «لا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ حَتَّى أكونَ أحَبَّ إلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِه والنَّاسِ أجْمَعِيْن»، أخرَجَاهُ.
الشرح: بعد محَبَّة اللهِ -جَلَّ وَعَلا- تأتي مَحَبَّة الرَسُول -صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم-، مَحَبَّةٌ دينيةٌ لا مَحَبَّةٌ طبيعيةٌ، مَحَبَّةٌ دينية لأنه رسول اللهِ الذي أنقذنا اللهُ به مِنَ الضلال، وأخرَجَنا به مِنَ الظُّلُماتِ إلى النور، الّذي بيَّن لنا طريقَ السعادة وطريق النجاة، فهو المُسْتَحِقُّ للمَحَبَّةِ بعد محَبَّة اللهِ -سُبحانَهُ وَتَعَالَى-.
لا يُقَدِّمُ مَحَبَّة أحدٍ مِنَ المخلوقين على مَحَبَّة الرَسُول -صلى اللهُ عليهِ وَسَّلم-، لا يُقَدِّم مَحَبَّة والِدَيه ومَحَبَّة أولادِهِ ومَحَبَّة أموالِهِ، بل إنَّهُ يُقَدِّم ما يُحِبُّه اللهُ ورسولُهُ على ما تُحِبُّهُ نفسُهُ.
وفي هذا الحديث أنَّ النبيَّ -صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم- قال: «لا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ»؛ أي: لا يكمُلُ إيمانُهُ، «حَتَّى أكونَ أحَبَّ إلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِه»؛ عَمُودَي النَّسَب، أقرب المخلوقين إليكَ هم الولد والوالِد، «حَتَّى أكونَ أحَبَّ إلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِه والنَّاسِ أجْمَعِيْن»؛ أي: جميع الأصحاب والجماعة والقبيلة والأقارب، تُحِبّهم لكن تُقَدِّم مَحَبَّة الرسول        -صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم-
«لا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ حَتَّى أكونَ أحَبَّ إلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِه والنَّاسِ أجْمَعِيْن»: هذا حقٌّ للرسولِ-صَلّى اللهُ عليه وسَلَّم- علينا؛ أنْ نُحِبَّهُ هذه المَحَبَّة؛ بعد مَحَبَّة اللهِ-عزَّ وجل-.
فالمَحَبَّةُ تتنَزَّل على هذه الأمور، لأن هذه المَحَابَّ منها ما هو مَحَبَّة عِبادة، ومنها ما هو مَحَبَّة اقتداءٍ واتِّباعٍ، وهي للرسول-صلى اللهُ عليه وسلّم-، ومَحَبَّة قرابة، ومَحَبَّة مُصاهرة، ومَحَبَّة مُوَاطَنة، إلى آخره.
المتن: ولهُما عنه قال: قال رَسُول اللهِ -صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم-: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيهِ مِمَّا سِوَاهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا للهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أنْ أنْقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُلْقَى في النَّارِ».
الشرح: هناك إيمانٌ، وهناك حلاوة الإيمانِ، قد يكون الإنسان مؤمنًا لكنه لا يجد حلاوة الإيمان؛ بل يكون دون ذلك، أمَّا مَنْ وَجَدَ حلاوةَ الإيمان فهذا أعلى مِنْ مُجَرّد المُؤمن.
والنبيُّ -صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم- في هذا الحديث يقول: (ثلاثٌ): يعني ثلاث خِصال، (مَنْ كُنَّ فِيهِ): مَنْ وُجِدَت فيه هذه الخِّصال الثلاث فقد: «وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ»، ما هي؟ «أنْ يَكُونَ اللهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيهِ مِمَّا سِوَاهُما » فلا يُقَدِّمُ على مَحَبَّةِ اللهِ ومَحَبَّةِ رسولِهِ أحدًا فيها.
الثانية: المَحَبَّة في اللهِ: «وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا للهِ»، وهي المَحَبَّة بين المُسلمين بحُكم الإيمان: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
«ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ»، ما هي هذه الثلاث؟
الأولى: «أنْ يَكُونَ اللهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيهِ مِمَّا سِوَاهُما»، فمَنْ كانت فيه هذه الخَصلة فإنه قد ارتقى؛ ووجد حلاوة الإيمان.
ثُمَّ: يُحبُّه في الله، الناس يتحابّون مِنْ أجل الأموال من أجل القَرابة وغير ذلك، ولكن المحبَّة في الله هي أعلى درجات المحَبَّة بين المخلوقين: «وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا للهِ»، يُحِبّه لإيمانه، ولو لم يُعطِهِ شيئًا، ولو كان سابِقًا وميتًا يُحِبّه: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان).
فالمَحَبَّةُ للمؤمنين أوّلهم وآخرهم، لأن المؤمنين إخوة، وهذه الأُخُوّة أقوى مِنَ أُخُوّة النَّسَب، مَحَبَّة الإيمان أقوى مِنْ مَحَبَّةِ النَّسَب، أُخُوّة الإيمان أقوى مِنْ أُخُوّة النَّسب، المؤمنون أخوة مِنْ أول الحقيقة إلى آخر الخَليقة، إخوةٌ في الإيمان؛ يُحِبُّ بعضهم بعضًا.
وفي الحديث: «لا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأخِيهِ ما يُحِبّ لِنَفْسِهِ»، فيُنَزِّل أخاه منزلة نفسه، فما كان يُحِبه لنفسه يُحِبُّه لأخيه، وما كان يكرهُهُ لنفسه يكرهُهُ لأخيه، هذه علامة الإيمان الصادق: «أنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا للهِ ».
الثالثة: «وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أنْ أنْقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُلْقَى في النَّارِ»، يُبْغِض الكفرَ بُغْضًا شديدًا، ولا يتساهل فيه حتى لو خُرِّقَ أو عُذِّبَ فإنه لا يُشْرِك بالله شيئًا، ولا يكفر باللهِ-عزّ وَجَّل-، يتمَسَّك بدينِهِ مهما بلغ الأمر مِنَ التعذيب، حتى لو قُتِلَ ولو عُذِّب، يصبِر على دينه، هذه علامة الإيمان الصادق، وعلامة حلاوة الإيمان.
فمَنْ بلغ هذه المرتَبة فقد وَجَدَ حلاوة الإيمان، إذا كان يكره أنْ يعود في الكفر بعد إذ أنقَذَهُ الله منه كما يكره أنْ يُقْذَف في النار، فهذا قد وَجَدَ حلاوة الإيمان.
ولهذا مَنْ بَلَغَ هذه المرتبة لا يرتَد عن الإسلام، الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- لم يرتد منهم أحدٌ عن الإسلام بعد إسلامه، وإنما ارتَدَّ ضِعاف الإيمان الّذين لم يَتَمكّن الإيمان في قلوبهم.