العقيدة الطحاوية 09-03-1439هـ


التاريخ: 9/3/1439 هـ.

من قول المؤلف: "وأما قول إبليس: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾"

إلى قول المؤلف: "وَذَكَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِاسْمِ الْعَبْدِ فِي أَشْرَفِ الْمَقَامَاتِ"

قال المؤلف:

"وأما قول إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر:39] إنما ذم على احتجاجه بالقدر لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له" إبليس حصلت له لعنة الله لحسده لآدم – عليه السلام – حينما أمره الله تعالى أن يسجد له سجود تحية لا سجود عبادة؛ فكان سجود التحية جائزة حتى كان موجوداً في أول الإسلام ثم نسخ؛ فقاس إبليس قياساً باطلاً وزعم أن النار أفضل من الطين، والعكس صحيح: الطين أفضل من النار؛ فإن الطين منتج والنار إنما هي محرقة ومهلكة؛ ثم احتج على ربه ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ فنسبه إلى الله كما هو مذهب الجبرية الذين يقولون أن العبد مجبور ليس له إرادة، فهو كأنه ريشة في الهواء؛ فإبليس أب الجبرية الإبليسية؛ لأنه احتج على الله بالقدر وأن الله أجبره؛ فذمه الله على ذلك لا أنه اعترف بالقدر، فلم يقل: يا رب فاغفر لي وتب عليه؛ "ألم تسمع قول نوح عليه السلام: ﴿وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [هود:34] ، ولقد أحسن القائل: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن" العبد له مشيئة والله له مشيئة، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله تعالى. "وعن وهب بن منبه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه" عليك الإيمان بالقدر - خيره وشره - والتسليم له والإيمان بأن الله هو العليم الحكيم، ولا تدخل في التساؤلات فيه؛ فإن عقولنا لا تصل إلى حكمة الله من أوامره ونواهي وأقداره؛ ولو قد تدرك بعض الشيء منها، فإن عقولنا قاصرة في إدراك حكمة الله.

"قَوْلُهُ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا)" الله يهدي من يشاء فضلاً منه وإحساناً، ويخزي من يشاء عدلاً لسبب من قبل العبد وقضاء عليه بسبب أفعال العبد عدلاً من الله. "هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ فِعْلِ الْأَصْلَحِ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْهُدَى مِنَ اللَّهِ: بَيَانُ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالْإِضْلَالُ: تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ ضَالًّا، أَوْ حُكْمُهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّلَالِ عِنْدَ خَلْقِ الْعَبْدِ الضَّلَالَ فِي نَفْسِهِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ." ومن ضلالات المعتزلة: أنهم يوجبون على الله، والله لا يجب عليه شيء، إلا ما أوجبه على نفسه ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]. "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56] وَلَوْ كَانَ الْهُدَى بَيَانُ الطَّرِيقِ - لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ عَنْ نَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الطَّرِيقَ لِمَنْ أَحَبَّ وَأَبْغَضَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: 13] ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31] وَلَوْ كَانَ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ الْبَيَانُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ - لَمَا صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصافات: 57] وَقَوْلُهُ ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 39]" الهداية لها أسباب والضلال له أسباب وأسباب من قبل العبد، والهدية من الله فضلاً منه، والإضلال من الله عدلا منه؛ كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5-10] والهداية نوعان: هداية التوفيق وهداية البيان والإرشاد؛ والمعتزلة يجحدون توفيق الله، ويقررون أن الله يبين فقط؛ لأنهم ينكرون القدر ويقولون إن العبد يخلق فعل نفسه، ومهذ مخالف للقرآن، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96] والله يبين ويوفق، يوفق المؤمنين ويحرم الكفار من التوفيق؛ وقد بين لهم طريق النجاة وهم لم يستجيبوا؛ فالله خلق الجنة للمؤمنين والنار للكفار، ويريد أن يملأ الجنة بالمؤمنين ويملأ النار بالكفار؛ فالهداية والإضلال كلاهما بمشيئة الله، ولهما سبب من قبل العبد.

"قَوْلُهُ: (وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ، بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ) فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: 2] فَمَنْ هَدَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَبِفَضْلِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَبِعَدْلِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الْقَدَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ فَرَّقَهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ." قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21] فظنوا أن الله يساوي بين المؤمن والكافر وساء ما يحكمون؛ فأسند الله الإيمان والكفر إليهم وهو محمود على الحالتين: حالة الفضل وحالة العدل.

"قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ) الضِّدُّ: الْمُخَالِفُ، وَالنِّدُّ: الْمِثْلُ. فَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ، بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا مِثْلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]" الله لا مثيل له ولا شريك له، وقدر كل شيء تقديراً، ونسب الأفعال إلى عباده؛ فأكرم المحسن لأفعاله وعذب الكافر لأفعاله. "وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ - إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ." والمعتزلة نفوا قدر الله وقضائه وليس هذا أول جريمة المعتزلة.

"قَوْلُهُ: (لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ) أَيْ: لَا يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ رَادٌّ، وَلَا يُعَقِّبُ، أَيْ لَا يُؤَخِّرُ حُكْمَهُ، مُؤَخِّرٌ، وَلَا يَغْلِبُ أَمْرَهُ غَالِبٌ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ." الذي يمضي ما يريد لا شريك له، وهو الواحد القهار.

"قَوْلُهُ: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِهِ)" أي: نؤمن بذلك كله من أول الرسالة، وأيقنا أن كل شيء من عند الله: الخير والشر، والهداية والضلال، يعطيه من يستحقه من عباده ولا يظلم الله أحداً، ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: 78] "أَمَّا الْإِيمَانُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِيقَانُ: الِاسْتِقْرَارُ، مِنْ يَقِنَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ إِذَا اسْتَقَرَّ. وَالتَّنْوِينُ فِي (كُلًّا) بَدَلُ الْإِضَافَةِ، أَيْ: كُلُّ كَائِنٍ مُحْدَثٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ." كل بحكمته؛ لأن الحكمة هي: وضع الأمور في مواضعها.

"قَوْلُهُ: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى)" ونؤمن أن محمداً مختاراً لرسالة الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته؛ فأعطاها من يستحقها ويقوم بها، فهو ﷺ اجتباه الله من بين قومه - وليس ذلك للعبيد – لأنه يصلح لذلك ويقوم به ويصبر عليه. "الِاصْطِفَاءُ وَالِاجْتِبَاءُ وَالِارْتِضَاءُ: مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالُهُ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ." كغلاة الصوفية؛ فإن المخلوق لا يحصل على الكمال إلا بعبادة الله، ولا يعلو المخلوق إلا بها، فإذا أطاع الله يعلو وإذا عصاه نقصت منزلته. فمذهب غلاة الصوفية أنه لا حاجة إلا الرسول ولا إلى الدعوة؛ ولذلك سموا وليهم ب (العارف بالله) على أنه لا حاجة إلى الرسول والدعوة. وقال الله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32] "قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26]" لأن الولد جزء ومن الوالد وشبيه له.